تحتفل مصر هذه السنة بالذكرى المئوية لميلاد جمال عبد الناصر، والذكرى الستين على الوحدة المصرية السورية، وعلينا أن نتذكر الأسماء العربية التى أحاطت بالزعيم الخالد، بحكم موقعها السياسى، ودورها البارز فى الحياة الفكرية للوطن العربى. وهنا نذكر سامى الدروبى 1921 - 1976، سفير سوريا فى مصر، وإن كنا نستطيع أن نقول أيضا، سفير مصر فى سوريا لشدة تعلقه ببلادنا التى تلقى فيها تعليمه العالى فى جامعة القاهرة، فيما بين 1942-1946، واختلط بحياتها الأدبية ككاتب مصرى وليس كاتبا سوريا، حتى إنه كان من أكبر أمانيه المعلنة، بعد فشل الوحدة بين مصر وسوريا فى 1961، التى عقدت فى الثانى والعشرين من فبراير 1958، أن تعود هذه الوحدة التى لا يشك فى أنها من المطالب الشعبية.
كان الدروبى على استعداد أن يعلن من دمشق الفيحاء، عاصمة وطنه الذى انقلب على الوحدة، ضرورة عودتها من جديد، ثم يعتزل العمل السياسى كي لا يقال إنه يتحمس لهذه الوحدة طمعا فى منصب من مناصب الدولة، أو استجابة لعاطفة ذاتية جياشة للقومية والعروبة، وليس لمسايرة الحركة التاريخية الحديثة للتحرر الوطنى والعدل والتنمية التى يفرضها تاريخ العلاقات بين القطرين، ودفعته فى 1963، للدعوة لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية.
غير أنه رحل بعد سنوات قليلة من رحيل عبد الناصر، عانى فيها على المستوى العام من ثقل المحن والنكبات العربية المتتالية، التى تؤدى إلى التراجع والتخلف، وعلى المستوى الخاص، عانى من أوجاع المرض الذى يضطره لملازمة الفراش، لا يقابل أحدا.
وسامى الدروبى لم يكن قط من الطراز الذى يعزف عن همومه فى النهضة، أو يقول خلاف ما هو مقتنع به.
وإذا كانت السياسة لا تنفصل عن الثقافة، فأرجو فى الحديث عن سامى الدروبى أن نلتفت إلى الوجه أو الجانب الآخر فى حياته، الذى لم يصرفه عنه النضال، وأعنى به الكتابة النقدية والترجمة. وعلى الرغم من إيمان سامى الدروبى بالعلم، فلم يكن ممن يعتقدون بتكوينه أن هذا العلم، مهما علا شأنه، يمكن أن ينفى عن عالمنا الفن، أو أن يحول دون تقدمه وازدهاره، وإنما يظل الفن فى يقينه أقدر من كل العلوم على معرفة النفس فى المقارنة بينه وبين علم النفس، ويبقى كل منهما فى مجاله: يبنى العلم للإنسانية حاجاتها للمعرفة الكلية التى تقوم على السمات الأساسية المجردة للظواهر، تلك التى تصنع الحضارات.
أما الفن فيثير بالمعرفة الجزئية الفردية فى ذات الآحاد عواطفها وأشواقها التى تغنى الإنسان، وكلما تقدم العلم زاد الاهتمام بالفن. ولو أننا طبقنا هذا المفهوم على ثمرة التفاح، فإن علم النفس يتعامل معها مع مطلق هذه الثمرة بخصائصها العامة، بينما يتعامل الفن معها كثمرة معينة لها خصائصها التى تميزها عن كل ما عداها من النوع.
وهذا ما يجعل الفنون أكثر ثراء من علم النفس، والدليل القاطع أن علم النفس يستفيد من الآثار الفنية أكثر من استفادة هذه الآثار من علم النفس، بما ينطوى عليه الفن من خيال بلا حدود، لا يتوافر فى الأبحاث العلمية.
وإذا كانت شخصية المبدع لا تنفصل عن إبداعه، وأننا بتحليل هذا الإبداع فى النقد الأدبى نخرج بنتائج محددة لهذه الشخصية، فإن الدراسة النفسية المتخصصة لا ترقى بحال إليه. وإلى جانب ترجمة سامى الدروبى للأعمال الكاملة للكاتب الروسى دوستويفسكى 1821-1881، التى صدرت عن دار الكاتب العربى فى تسعة عشر جزءا من القطع الكبير وترجمته الأخرى لثلاثية الكاتب الجزائرى محمد ديب 1920-2003، «الدار الكبيرة، الحريق، النول» عن دار الهلال إلى جانب هذين العملين، ولكل منها مقدمة بقلم المترجم، كتب سامى الدروبى فى الصحافة المصرية الكثير من المقالات الرصينة عن قضايا الصراع الثقافى الذى احتدم فى بلادنا فى الخمسينيات والستينيات بين الجيل الجديد والجيل القديم.
وتستحق هذه المقالات التى تجمع بين دقة التعبير وجمال الصياغة، أن تصدر فى كتاب أو أكثر، لما تتضمنه من وعى فائق بحتمية التجديد، يرتبط فيه الإنتاج الأدبى بالواقع الحى من جهة، وبالأحلام العريضة للثورة العربية من جهة مقابلة، ومع انحيازه للجديد لم يغض سامى الدروبى من التراث.
أما عن ترجمات سامى الدروبى فمن يؤرخ للفترة الزمنية التى قدم فيها أعمال دستويفسكى ومحمد ديب، سيجد أن الحركة الثقافية فى مصر وبعض الأقطار العربية كسوريا ولبنان، نشط فيها التأليف والترجمة للأدبين الروسى والجزائرى شعرا ونثرا على اختلاف اتجاهاته، وعرفت فيه الثقافة العربية أسماء تولستوى وجوركى وتشيكوف وماياكوفسكى وشولوخوف وغيرهم من أدباء روسيا الخالدين ومالك حداد ومولود فرعون وآسيا جبار ومصطفى الأشرف من أدباء الجزائر العظام.
ولولا أن مضامين هذين الأدبين كانت مقاومة القياصرة والاستعمار الفرنسى، والتطلع إلى الحرية والعدل، لما تجاوبت معها الثقافة العربية بهذه الدرجة. ولا يجد سامى الدروبى ضيرا فى استخدام الكتاب العرب للغات الأجنبية كما فعل الكاتب الجزائرى محمد ديب وكل كتاب الجزائر فى إنتاجهم بالفرنسية، ما دام العقل والقلب ينبضان بالعروبة، لأنه بهذه اللغة يتاح لأدبنا العربى أن يتسع نطاقه ويقرأ فى المحيط العالمى، وإن سلم بأن الكتابة بلغة أجنبية تفقد النصوص روحها، مثلما تفقد أيضا هذه الروح مرة ثانية عند ترجمتها وإعادتها إلى لغتها العربية، مهما التزم الكاتب بالصدق والحقيقة المطلقة، دون أدنى مبالغة. وفى مصر نشرت دار المعارف لسامى الدروبى كتابين: الأول «علم الطباع المدرسة الفرنسية» فى 1961، والثانى «علم النفس والأدب» فى 1971، وهما من أهم ما صدر فى المكتبة العربية فى هذا المجال الذى شغل الكثير من الباحثين والنقاد، تحمسوا له بشدة، حتى يفرضوا هذا الاتجاه على الإبداع والمبدعين فى مواجهة المدرسة الاجتماعية التى كانت لها الغلبة على الساحة، بغض النظر عن سلامة هذا المنهج النفسى فى رؤيته وقيمته الموضوعية. وقبل هذين الكتابين صدرت لسامى الدروبى عن دار الفكر العربى فى القاهرة فى 1948 ترجمة كتاب «مسائل فلسفة الفن المعاصر» لجان مارى جويو، ويعد من الكتب الأساسية التى اعتمد عليها سامى الدروبى نفسه فى تأليف كتابيه.
ويكفى أن نذكر مع سامى الدروبى أسماء عباس محمود العقاد وعز الدين إسماعيل ومحمد النويهى الذين حاولوا تأصيل المدرسة النفسية فى الثقافة المصرية، ولو أن سامى الدروبى اختلف عنهم فى التمسك بالبيئة الاجتماعية فى دراساته، لندرك أهمية أعماله فى تاريخنا الثقافى، ومدى نفعها للمعرفة الإنسانية.