أنا عواطف جون إيلي ضاحي، القاهرة بالنسبة لي تشبه باريس، بمبانيهما التاريخية الضخمة، التي بنتها السلطة، تشعر حين تقف أمامها أنها راسخة في سابع أرض، وكأنهم أرادوا بهذه الأبنية تأكيد أن سلطتهم متجذرة وثابتة هنا وهناك، إنها مدن السلطة.. هي جون ضاحي، ولدت وعاشت في الدنمارك لأب سوري وأم دنماركية، درست اللغة العربية، ونالت دكتوراه في اللغات السامية واللغتين اليونانية واللاتينية القديمتين، حتى سارت العربية عملها، فاليوم تعمل في مجال تدريس اللغة العربية بجامعة كوبنهاجن، وبجانب مجال التدريس، تعمل في الترجمة من الأدب العربي. قدمت خلال سنوات عملها رواية لنجيب محفوظ، فضلًا عن مجموعات شعرية وقصصية، منها لمحمود درويش وواسيني الأعرج، وفي مقالات عديدة كتبت عن الأدب العربي، وتجربة الترجمة منه، كما كتبت عن المسيحيين السوريين وعن قسم من التاريخ المشترك بين الدنمارك وسوريا، خلال فترة المبشرين الدنمارك الذين زاروا سوريا. طورت منهجًا لتعلم اللغة العربية لغة وقواعد، ودليل إلى اللهجة السورية، فضلًا عن منهج للترجمة من الدنماركية إلى العربية. التقت بها «البديل»، وتحدثت معها عن المسؤولية والرسالة الأخلاقية للأدب، وعلاقة أوروبا بالأدب العربي وعوامل ضعف انتشاره في قارة اليورو، وعن النظرة الغربية العنصرية للعربي، والإسلاموفوبيا وأسباب خوف الغربي من العربي، كما بحثنا معها عن دلالات تشير إلى تغير نظرة الغرب مستقبلًا إلى المنطقة العربية، سواء في الناحية التي تزيد الفجوة والعداء اتساعًا أو العكس، وإليكم نص الحوار.. دائمًا ما يؤكد المبدع العربي عدم جواز نزع المسؤولية الأخلاقية عن الأدب، وتوضح «ضاحي» أن الأدب خاصة الصنف الروائي دائمًا ما يعكس واقع الكاتب، لذا فالكاتب ليس بالضرورة ملزمًا بأخلاق معينة، والكاتب الصادق يكتب شعوره، وهو غالبًا يكون بعيدًا البعد كله عن الأخلاق، التي هي ظاهرة اجتماعية وليس لها أي علاقة بالشعور الأدبي، الكاتب ليس عليه أي مسؤولية أخلاقية، وفي النهاية النص الأدبي دائمًا ما يحدد المتلقي الذي يصبو إليه. نلمس مدى ضعف انتشار الأدب العربي في أوروبا، ما يدفعنا للسؤال عن العوامل المسببة لذلك، والبحث في نظرة أوروبا لآداب تلك المنطقة وفنونها، وكيفية استقباله ومدى تقبله، وتقول «ضاحي»: أعيش في الدنمارك، تعدادها 6 ملايين نسمة، وحدهم وسط شعوب العالم من يتحدثون الدنماركية، إنها لغة صغيرة وسوق نشر صغير كذلك، ومثله سوق الترجمة، على عكس الوضع في بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا، في تلك البلاد الكبيرة، ستجد ترجمات لكل أعمال نجيب محفوظ وإلياس خوري، وغيرهم من الكتاب المهمين، ستجد لديهم أيضًا آليات لاختيار الأعمال الأدبية ومكافأة الأديب. سبق وقدمت «جون» بحثًا عن الرواية الجزائرية ووضعها في الدنمارك، وهي المترجمة التي قدمت رواية واسيني الأعرج «البيت الأندلسي»، للدنماركية لأول مرة، لذا توضح: غير هذه الرواية هناك 18 رواية ترجمت للدنماركية، ما يعتبر على رغم قلة عدد هذه الأعمال عددًا كبيرًا بالنسبة للدنمارك. وتقول أيضًا: في التكوين الثقافي لكل منا أعمال عالمية تداخلت مع الأدب العربي، صارت بترجمتها العربية جزءًا من الأدب العربي، مما يعني تفاعله مع ثقافة اللغة المترجم إليها، وهذا الأمر وجدناه أيضًا بالنسبة للأدب المغربي المترجم إلى الفرنسية، ليس فقط لأن كثيرًا من الأدب المغربي يكتب بالفرنسية، لكن لأن الأدب المغربي له مكانه كجزء من الأدب الفرنسي، وكذلك الحال في بريطانيا، على عكس الدنمارك، لصغر انتشار تلك لغتها. في العام2004، شارك العالم العربي للمرة الأولى، كضيف شرف معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وكانت الأزمة الكبرى النقص الكبير في الكتب المترجمة عن العربية، مما يدفعنا للبحث في الأسباب التي تعيق ليس فقط الترجمة من العربية إلى اللغات الأوروبية، بل وأيضًا انتشار الكتب المترجمة في الأسواق الأوروبية وتهافت القراء عليها. هنا ترجح «ضاحي» أن السبب قلة الاهتمام بالأدب العربي المترجم، وسط الإنتاج الأوروبي والأمريكي الهائل، وإقبال الأوروبيين على قراءة الأدب الأمريكي، وتقول: أوروبا تتعرف على نفسها، عن طريق آدابها، هذا من ناحية، والأدب العربي يأتي على الهامش، ليس داخلًا بجوهر الأدب الأوروبي، فضلًا عن اختلاف الموضوعات التي يتناولها والتي تكون بعيدة نوعًا ما عن اهتمام الأوروبيين، فمعظم الدول العربية تعيش في نزاعات حياتية معينة، لا تنفصل عن الأدب، فلا يخلو أي عمل أدبي لبناني عن تناول الحرب اللبنانية، إن لم تكن الحرب موضوعه الأساسي؛ لأن الحرب دامت 20 سنة وترسخت في النفوس، حتى وإن لم تحكِ عن العنف المباشر، تجدها في أحيان أخرى تحكي عن العنف داخل الإنسان، وأوروبا لم تعد هذه الأمور تشغلها، التي يشغلها الآن البحث عن الذات، العناصر المتنازعة في دول شمال أوروبا مختلفة عن العناصر المتنازعة في خارج القارة، ولا أحب التحدث عن الأوروبي بشكل نمطي، فهناك شعوب مختلفة وطبقات مختلفة وكذلك التوجهات. إذن ماذا عن عامنا الحالي؟ لأي موضوعات عربية يولي هذا الأوروبي باختلاف شعوبه وطبقاته وتوجهاته اهتمامه؟ هنا تحكي «ضاحي» عن تجربتها مع الأدب الجزائري الموجود في بلدها: أكثر روايات عربية مبيعًا في الدنمارك، تحكي أولًا عن وضع المرأة العربية بصفتها مقموعة، ثانيًا عن الإرهاب، إذ أن نقد هذه الموضوعات يؤكد لدى الغربي نمطية العربي، فمثلًا الرجل العربي كقامع للمرأة يؤكد للقارئ الأوروبي السطحي فهمه للرجل العربي، ونفس الشيء بالنسبة للإرهاب. وتقول أيضًا: الكاتبة الجزائرية آسيا جبار، التي نالت جائزة السلام عام 2000 ونالت كذلك جائزة في الدنمارك عام 2006، تكتب عن وضع المرأة الجزائرية بعد التحرير، من خلال رؤية نسائية بحتة، وتعيد كتابة تاريخ الجزائر حتى قبل التحرير بعين المرأة، بعد نيلها جائزة من فرنسا صارت عضوًا بالأكاديمية الفرنسية، لتكون أول جزائرية تدخلها، وبعدها بدأت أعمالها تترجم إلى اللغات الأوروبية كافة، لكن بعد فترة كبيرة من تحريرها لهذه الكتب، فأخذ القارئ الأوروبي منها تلك الصورة القديمة عن المرأة الجزائرية المحجبة المقموعة، وترسخت لديه. أكاديميًّا كان هناك بعض الاهتمام بالأدب العربي، ما أرجعه كثيرون إلى حاجة الغرب في معرفة التفكير العربي بغرض استعماري، وليس بغرض حضاري تفاعلي، نتحدث إذن عن غرب عنصري، ونسأل إن كان الغرب حقًّا عنصريًّا في تفاعله مع آداب المنطقة العربية وفنونها؟ «جون ضاحي» تضرب لنا مثالًا لتجيب على هذا السؤال: هناك تيارات يمينية قوية في أوروبا، تعارض الهجرة العربية إلى الدول الأوروبية، وبالتزامن مع وصول عدد من اللاجئين السوريين إلى هناك اقترح الحزب الحاكم استقبال السوريين لكن دون إقامة، بل بإقامة محددة لمدة سنة، ما يعتبر جريمة في حق السوري الذي جاء إلى هذه البلاد بسبب ما تمر به بلاده من أزمة، هذا الوضع النابع عن وضع سياسي سلطوي برؤية غير إنسانية للأزمة السورية يرفضه كثير من الدنماركيين. إذن هل الغرب عنصري؟ تقول: الإعلام دائمًا ما ينجح في التأثير على المواطن، وإذا كان الإعلام تملكه السلطة بصوتها كلماتها المسموعة المنتشرة، وإذا كان صاحب السلطة عنصريًّا، فمن السهل على المواطن أن يطبق نفس الموقف. وكأن الآداب والفنون والدراسات العربية ليس لديها ما تقدمه للغرب، نرى العرب يستفيدون من الفنون والآداب والدراسات الغربية على اختلاف روافدها، لكن لم نرَ استفادة من الغرب، لكن «ضاحي» تقول: الغرب استفاد كثيرًا من الحضارات العربية القديمة الماضية، إذا دخل الأدب المترجم بكثرة على أدب معين، سيخلق نوعًا من التفاعل مع هذا الشعب، سبق وقلت في التكوين الثقافي لكل منا أعمال عالمية تداخلت مع الأدب العربي، هناك بعض الأعمال العربية دخلت بقوة مع الأدب حتى صارت جزءًا من الأدب الدنماركي. تعطي «ضاحي» مثالًا للنصوص المترجمة من العربية إلى الدنماركية، وتفاعلت مع ثقافة هذا المجتمع بقوة، حتى صارت نسختها المترجمة مرجعًا هناك: في العام 2006 نشرت أول ترجمة دنماركية للقرآن الكريم، النص القرآني لبى حاجة كبيرة للمجتمع هناك لمعرفة هذا النص، وأصبح مرجعًا ليس فقط للمسلمين، بل ساعد كذلك العديد من الباحثين والمترجمين في مختلف الحقول المعرفية. وضربت مثالًا آخر: في نهاية العام 2013 نشرت الترجمة الدنماركية لألف ليلة وليلة، لنفس المترجمة التي قدمت النص القرآني، معتمدة على النص البولاقي القديم، كما حافظت في ترجمتها لأشعار ألف ليلة وليلة على أوزان الشعر العربي، ما خلَّف اهتمامًا كبيرًا بهذا العمل في بلدي، وعلى المدى البعيد سيكون له حضور كبير في الإنتاج الأدبي الدنماركي. كثيرًا ما يؤكد الباحثون أن الغرب يبحث على نموذج عربي ما، ليصدره باعتباره النمط السائد في الأدب العربي، كي يقف عنده، مثلما جرت العادة على تصدير صورة العربي الإرهابي اجتماعيًّا، كما يبدو لنا أن نجيب محفوظ لو لم يفز بجائزة نوبل، تلك الجائزة الغربية، لما لاقى هذا الاحتفاء الأوروبي بأعماله، وهو الوضع نفسه بالنسبة للكاتبة الجزائرية آسيا جبار، هذين النموذجين نتخذهما مثالًا؛ لأن الإحصاءات تشير إلى أنهما الأشهر بأعمالهما لدى الغرب، فهل السبب حصولهما على جوائز غربية؟ إذن ماذا لو فاز غيرهما بهذه الجوائز؟ هل كانت ستسمع بهما أوروبا أيضًا؟ «ضاحي» تجيب: أيضًا عندما يحصل أي كاتب عربي على جائزة عربية يتم الاحتفاء به عربيًّا، وتبدأ مظاهر الاهتمام به (في بلده)، الأمر ليس فقط في أوروبا، ونجيب محفوظ كان موجودًا في بريطانيا قبل الجائزة، فضلًا عن حضور أعمال عدد من الكتاب اللبنانيين والمغاربة في بريطانياوفرنسا، هناك وجود عربي في أوروبا، ليس فقط بسبب الجوائز، فلا ننسى الجاليات العربية في أوروبا وتأثيرها في الثقافة الغربية، ودارسو اللغة العربية في جامعة كوبنهاجن أكثرهم دنماركيين، وجزء منهم عرب مهاجرين، الجميع لديه اهتمام بالأدب والسياسة العربية، لعل الجامعة إطار ضيق للتعارف بين الثقافات، لكن ما يحدث بالجامعة يؤثر على بقية المجتمع، المهتمون بالأدب العربي في أوروبا ربما يكونون أقلية لكنهم موجودون. ظهرت في أوائل الألفينات كتب أوروبية أعقبت أحداث سبتمبر، تكلمت عن مستقبل أوروبا وتوقعت إنه سيكون هناك ما اسموه "وباء عربي إسلامي تحديدًا"، حتى إن واحدًا من هذه الكتب حمل اسم "يوريبا" بدلًا من أوروبا، وحذر من تغيير القيم الأوروبية أو تدنيسها، ما يؤكد النظرة العنصرية تجاه العرب، عن هذا تقول «ضاحي»: أرى الإنسان بإنسانيته، وبكل شيء جيد بداخله، كان من غير المقبول اجتماعيًّا أن تحكي وسط الجموع بشكل عنصري، لكن الآن صار من العادي والمقبول، الناس تحكي الآن بالعنصرية. يقول المفكر الأمريكي «جون اسبوسيتو»: "لقد أصبح الأمر بمثابة فرض غشاوة من الجهل على رؤية الغرب للإسلام وللحضارة الإسلامية، وأصبحت الصورة النمطية عن المسلم أكثر أريحية عند رجال المراكز البحثية، فهو في كلمة واحدة "الإرهابي"، وهو مما يغني رجال البحث والدرس عن التفكير العميق لاستجلاء حقائق الأمور والدوافع الأصلية وراء ظواهر الإرهاب"، وكأن الأمر يرجع إلى ميل الإنسان في العادة إلى معاداة ما يجهل، بوصفه يشكل خطرًا غامضًا يحسن الاحتراس منه وتجنبه، لماذا يخاف الغرب من الإسلام؟ «جون ضاحي»: الحملات السياسية دافعها الأول هو الخوف، دائمًا تلعب على خوف الناس، والغريب في داعش أنها خرجت في هيئة الصورة التي يخاف منها الغرب، داعش تعكس خوف الغرب من الإسلام، فما تفعله داعش موجه للغرب وليس للمسلمين أو العرب، من لا يقرأ وسطحي ستظل هذه هي الصورة التي تصله عن العرب والمسلمين. إنها ليست متفائلة، فلا تجد دلالات تشير إلى تغير نظرة الغرب مستقبلًا إلى المنطقة العربية في الناحية التي لا تزيد الفجوة والعداء اتساعًا، فضلًا عما يصعب عليها عملها واهتمامها باللغة العربية وآدابها في الدنمارك، فليس همها نشر الثقافة العربية هناك فحسب، بل تهتم بنشر المعرفة كذلك، إلَّا أن هناك من الضغط عليهم والتضييق على اللغة العربية حتى تقدم بشكل سطحي، لكنها لن تفقد عشقها وارتباطها بالعرب والعربية.