إن التسول منتشر في بقاع الارض، ونسبته المئوية تختلف من بلد الي أخر، غير أنه في العراق وبسبب ما تعانيه من ظروف قاسية منذ الغزو الامريكي وحتى اليوم، وما ارتبط بذلك من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية وقتل وتهجير ونزوح للأهالي بفعل الارهاب الدامي ، فان التسول أخذ بالتنامي حتى صار ظاهرة مخيفة تهدد الأمن والسلام المجتمعي. والتسول بالعراق على كل شكل ولون وينتشر في مختلف المحافظاتالعراقية وقراها، والمشاهد المؤلمة للتسول تنتشر في تقاطع الطرقات والأسواق والأماكن العامة وأمام الفنادق والأحياء والأزقة، بينما يتشكل جمهور المستولين من كل أطياف المجتمع العراقي ومن النازحين من النساء وكبار السن والأطفال. وقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعا في عدد الأيتام لأكثر من خمسة ملايين يتيم، ونحو أربعة ملايين أرملة، وآلاف المشردين، وعشرات الآلاف من العاطلين عن العمل، وكل العوامل تعمل على زيادة حجم هذه الظاهرة المرعبة. ووفقا لمتخصصين عراقيين في مجال البحوث الاجتماعية، فان القصور الأمني نتيجة انشغال الدولة بمحاربة الارهاب والمشكلات السياسية والاقتصادية، قد ساهم في نمو ظاهرة التسول، بل واستثمار العصابات المنظمة لهذه الاوضاع الأمنية في استغلال النساء والأطفال المشردين على شكل مجموعات تجوب الشوارع والطرقات والأسواق لجمع المال. ورصدت دراسات اجتماعية واعلامية عوامل عديدة تكرس لاستمرار التسول وعصاباته ومن بينها، التفكك الاجتماعي الذي انتج امراض اجتماعية، مثل البطالة وتردي التعليم .
انتشار الفقر كما يعد انتشار الفقر في العراق عاملا رئيسا في استمرار ونمو هذه الظاهرة، ووفقا لتقرير الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات التابع لوزارة التخطيط والتعاون الإنمائي الاتحادية، عن خط الفقر وملامحه في العراق، فقد أظهر أن ما نسبته 23% من سكان البلاد يقعون في دائرة الفقر، وأن هذه النسبة تزداد في الريف العراقي. كما تستثمر هذه العصابات المنظمة ذوو الإعاقة والأطفال والنساء كأدوات رئيسية في عمليات التسول. والطامة الكبرى ان هذه العصابات باتت تستغل ظاهرة التسول في ارتكاب جرائم بشعة وعلى رأسها تجارة الأعضاء البشرية، والمخدرات، والفساد الأخلاقي ، واستغلال الأطفال حتى في أعمال العنف. ويعتبر باحثون أن انتشار التسول عموماً، وتحوّله إلى عمل عصابات منظّمه يستغل المشّردين والفقراء، بات ظاهرة اجتماعية خطيرة لم تجد لها الحكومة حلولاً جذرية، وسببها الأول الفقر الشديد وترهل الأمن في ظل الظروف العصبيه التي يمر بها الوطن الذي تكالبت عليه العصابات . وبالرغم من الجهود التي تبذل لمحاربة التسول علي صعيد المكافحة الأمنية، غير انها غير كافية للإجهاز عليها، لأنها ترتبط بالعوز المالي وارتفاع نسب البطالة ونقص فرص العمل، وهو الأمر الذي يتطلب إيجاد تنمية شاملة وعدالة توزيع عبر إجراءات تضامنية تكفل واقع المعوزين وتسد حاجاتهم.
واقع مرير تبدو مشاهد التسول في العاصمة بغداد أكثر، حيث يجوب عشرات المتسولين الشوارع العامة والأسواق والمستشفيات والمدارس والمؤسسات الحكومية، ولم يتورعوا عن طرق أبواب المنازل وسط مخاوف سكانها من امكانية تهور المتسولين واندفاعهم لإقتحام منازلهم. وعصابات التسول تتولى تنظيم عمل هؤلاء المتسولين في أرجاء العراق من خلال نشرهم في مناطق محددة وتقاطعات الشوارع وفي نقاط السيطرات الامنية توظيفا للازدحامات المستمرة بها، كما تقف هذه المافيا وراء عمليات طرق ابواب البيوت في الاحياء السكنية والتوسل بأصحاب الدار لإعطائهم الاموال، بينما شكا الكثير من المواطنين من وقوع سرقات في بعض البيوت خلال استغلال المتسول غياب أهلها للدخول والسرقة. إن التسول بالعراق بات مهنة مربحة للغاية في ظل وجود مافيا مقاولي التسول، تتولي جمع المتسولين وتنقلهم بسيارات خاصة الي الساحات نهارا، وتعيد جمعهم ليلا لنقلهم الى اماكن ايوائهم ، بينما يبلغ الأجر اليومي للطفل الواحد 10 آلاف دينار عراقي مقابل ما يجمعه من اموال عبر التسول والباقي يتم تسليمه لهذه العصابات. وهذه العصابات تدك حصون الأمن الاجتماعي العراقي منذ عام2003، بينما تزايدت خطورة أنشطتها بعد عام 2014 عقب اجتياح تنظيم داعش الارهابي لمساحات واسعة من الوطن، وظهور عشرات المليشيات والعصابات المسلّحة خاصة في العاصمة بغداد. ويُعدّ ذوو الإعاقة والأطفال والنساء أبرز أدوات التسول المناسبة للعصابات، لكن الجهات الأمنية تعتبر أن هذه العصابات، تشكل خطراً أمنياً كبيراً على البلاد، فضلاً عن المخاطر الاجتماعية إضافة الى تنكر الشباب بزي الشيخ الكبير من أجل نيل استعطاف المارة. وكشفت وزارة الداخلية العراقية، عن خطورة هذه العصابات بعدما اعتقلت أعداد من المتسولين وتبيّن انخراطهم في عصابات مسلّحة، هدفها التلاعب بالأمن العام عبر المتسوّلين.
حيل المتسولين يعتمد المتسول على براعة نفسية في استدرار تعاطف الناس واستمالة مشاعرهم حتى يهبوا في اعطائه ما يطلبه من مال ، المتسول يمد يده مقدما نفسه على انه لاجئ أو مهجر أو مريض او يتيم، أو بوصفها امرأة معيلة وتربي صغارا. ولجأ بعض المتسولين الى غسل الزجاج الأمامي للسيارة ومسحه، وقد هيأ لذلك ماسحة بلاستيكية صغيرة ودلو من الماء في محاولة لإجبار صاحب السيارة على أعطائه أي مبلغ، وكثير من السيدات المتسولات يحملن بأيديهن أوراقا طبية وهن يصرخن لمساعدتهن لتوفير مال من أجل العلاج من الأمراض. وتتباين أعمار المتسولين ما بين عمر الطفولة وصولا للكهولة في السبعين، كما تتفاوت جنسياتهم ما بين عراقيين وعرب وأجانب، كل بحسب ما ينطقونه من لهجة ولغة في التسول. وهناك اعداد كبيرة من النازحين يمارسون التسول . بينما يلجأ من هم من أصول باكستانية او بنغلادشية الى حيل اخرى للتسول، ومنها الزعم بأنهم فقدوا أموالهم خلال زيارتهم لمراقد الائمة في كربلاء والنجف ويحتاجون الى مبلغ من المال لكي يعودوا الى بلادهم. ويستغل هؤلاء الأجانب طيبة الشعب العراقي وعاطفته الدينية وأنه لا يرد سائلا او فقيرا فيحصلون على أموالا كبيرة منهم .
جرائم أخرى ظاهرة التسول ترتبط بانتشار جرائم أخرى أشد خطورة على النسيج المجتمعي، ومنها تجارة الأعضاء البشرية، والمخدرات، والدعارة، واستغلال الأطفال حتى في أعمال العنف، الأمر الذي يتطلب وضع استراتيجية شاملة لمحاربتها . صحيح ان هناك أولوية تتمثل في تطهير الوطن من عصابات داعش، غير الامن المجتمعي يمثل ضرورة قصوى لتماسك الجبهة الداخلية ، وهذا التماسك يحتاج لعلاج الأمراض الخبيثة المنتشرة فيه بسرعة واخلاص خاصة التسول فالتعاون بين المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني الثقافي والديني بات يشكل ضرورة تفرضها تحديات الواقع الاجتماعي لحماية الوطن عصابات التسول.
انقاذ سريع وفي اعتقادي ان الدولة لابد وان تسرع في احتضان أطفال التسول ونسائه الواقعات تحت ظروف قهرية دفعت بهم لهذا المنحدر، ولابد ان تنظر الدول الى هذه الفئات باعتبارها فئات مقهورة فقدت القدرة على التعايش وكسب العمل الذي يحفظ أمنهم الاقتصادي ويسد جوعهم ولعل تفعيل الدور الرقابي للدولة، يظل عنصر مهما في ضبط عصابات التسول، وسن تشريعات قانونية رادعة لعصابات التسول، وحماية الصغار من أيديهم،و توفير الرعاية الصحية لهؤلاء الصغار من المتسولين وتوفير مساكن وتعليم واوراق ثبوتية تضمن حقهم في رعاية الدولة لهم وحماية مستقبلهم ومستقبل وطنهم من التشرد والضياع. ولكن نظرا للظروف الاقتصادية التي يمر بها العراق في معركة النضال ضد فلول تنظيم داعش الارهابي، فان الدولة لن تستطيع الوفاء بهذا الجهد بمفردها، ومن ثم فان المجتمع الدولي مطالب بالمساهمة في علاج هذه الازمة بالعراق عبر منظمة اليونيسف بصفتها المسئولة عن الطفولة وحقوق الطفل. وانني أدعو منظمة اليونيسف الى سرعة وضع برنامج شامل صحي وتعليمي وثقافي لرعاية اطفال التسول بالعراق .