برغم مرور 46 سنة على تولي الرئيس الراحل أنور السادات رئاسة مصر، و44 سنة على انتصار أكتوبر، مازال الجدل مستعرًا بين أنصاره وخصومه، فمؤيدوه يعتبرونه الرئيس الأكثر شجاعة وواقعية في التعامل مع قضايا المنطقة، وقاد مصر لانتصار مُشرّف وجنّبها ويلات الحروب، بينما يرى خصومه أنه أجهض «المشروع القومي العربي»، وهمّش دور مصر إقليميًا، وأفسد مشروع النهضة الصناعية والاقتصادية، ودمر قيم المجتمع، وأطلق العنان للتيارات الإسلامية المتطرفة، لهذا يبقى السادات شخصية جدلية، لكن المؤكد أنه كان «عظيم المجد والأخطاء» شأن سلفه عبدالناصر، كما وصفه ناصر الدين النشاشيبي، الصحفي والمؤرخ الفلسطيني الشهير. ولعل السمة الأبرز لخصومه، بالإضافة لتناقض المصالح، سمة «الدوجماطيقة» كمنهج للتفكير يعتبر رؤيته وأفكاره يقينية ترفض المناقشة، وهو ما يفسر المواقف المتعنتة للتيارين الناصري والمتأسلم حيال سياسات وشخصية السادات، ويبلغ التعصب مداه بتجريده حتى من مآثره الساطعة كقيادته مصر وجيشها لانتصار أكتوبر، وتأسيس التعددية الحزبية كلبنة أولى كان ينبغي تطويرها لولا ملابسات شائكة يضيق المجال لسردها، وإبرامه اتفاقية السلام مع إسرائيل ليضع نهاية لسلسلة حروب استنزفت ثروات مصر البشرية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، لقناعته بأن كل الحروب التي شهدها العالم عبر التاريخ انتهت بإبرام اتفاقيات للسلام، ويبلغ الغُبن مداه باتهامات مُغلظة كالخيانة، مع أن العقود التالية للمعاهدة أثبتت بصيرته الثاقبة، فلولا شجاعته بتوقيع اتفاقية السلام لظلت سيناء كالجولان والأراضي الفلسطينية، وربما اتجهت الأوضاع للأسوأ خصوصا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وما ترتب عليه من تحولات درامية بالمشهدين الدولي والإقليمي.
ويبدو أن وصف السادات للحرس القديم بتعبير «الغباء السياسي» لم يتجاوز الحقيقة كثيرًا، فقد استهانوا بدهائه وقدراته وتصوروا إمكانية قبوله دور «الرئيس الواجهة» فأدرك المخطط مُبكرًا والتحديات التي تنتظره بخلافة عبدالناصر، وكانت المواجهة حتمية، واستطاع حسمها لصالحه بدعم بعضهم كالفريق صادق فعينه وزيرًا للدفاع لاحقًا، وكانت البداية حين قدم له طه زكي ضابط الشرطة بإدارة رقابة الاتصالات في 11 مايو 1971، تسجيلات للتخطيط لاغتياله فأقال وزير الداخلية شعراوي جمعة، فتقدم رفاقه باستقالات جماعية، لإحداث فراغ دستوري، ففاجأهم السادات بقبول استقالاتهم وأذاع النبأ، وشكّل أول وزارة خارج «العباءة الناصرية» مُستعينًا بثقاته ويتصدرهم قائد الحرس الجمهوري الليثي ناصف.
السادات والإخوان
وبرغم انتصاره بالجولة الأولى لصراع السلطة توجس من خطورة اليسار الناصري والماركسي على مشروعه المناقض للناصرية، خصوصا وسط فاعليتهم بالجامعات، وهو الذي يُعِد البلاد لحرب التحرير فواجه اليسار بسياسة أقرب للمغامرة بتشجيعه للتيارات الإسلامية بقيادة الإخوان المسلمين، فأطلقهم من السجون وأبرم اتفاقًا مع مرشدهم، ويروي محمود جامع، صديق السادات ونديمه، بكتابه: «عرفت السادات»، أن الصفقة بدأت قبل وفاة عبدالناصر، وبتكليف شخصي منه، وكانت الاجتماعات تستمر بمنزله ليلاً، ويحضر السادات بالسيارة الرئاسية المزودة بهاتف لاسلكي، حيث كان عبدالناصر يزور السودان، ويتصل بالسادات لمتابعة المفاوضات، وتصادف مرور اللواء إبراهيم حليم، مفتش مباحث أمن الدولة، فشاهد السيارة، فسأل وتأكد، وكلّف الضباط بمراقبة منزل جامع، ومعرفة مجريات الأمور، وأبلغ شعراوى جمعة، وزير الداخلية فاستشاط غضبًا، وقرر متابعة وتحديد الشخصيات التي تجتمع بالسادات، لكنه رفض اختراقها وتسجيلها إلا بتعليماته، وكانت المفاجأة توقف الاجتماعات، ولم ترصد المباحث اتصالات أخرى. جرت مياه كثيرة في النيل ووصل السادات للحكم وأطاح بخصومه، وعاود تكليف محمود جامع ومحافظ أسيوط حينذاك محمد عثمان إسماعيل بتشكيل تيار إسلامي، ومنحه مخصصات مالية للإنفاق عليها، ليتولى «جامع» مهمة جامعات الدلتا، وإسماعيل جامعات الصعيد، وكانت تربطه علاقات وثيقة بشبابها، ومنحهما صلاحيات واسعة لمواجهة اليسار جامعيًا واجتماعيًا، واجتمع السادات بمرشد الإخوان السجين حسن الهضيبي، وأطلق سراحه ومعه قيادات الجماعة، وتمت الصفقة التي تجاوزت الجامعات لكل مرافق الدولة خصوصا وسائل الإعلام ومساجد الأوقاف، لكنها أثارت لاحقًا أزمات مع البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الراحل، بلغت مداها عام 1981 قبيل وفاته، حينما عزله ووضعه رهن الإقامة الجبرية بالدير.
الإعداد للحرب
تحرك السادات عبر عدة محاور داخليًا وخارجيًا، فبعدما استقرت سلطاته أعاد هيكلة الركائز القانونية لشرعيته الجديدة، فأصدر الدستور الدائم عام 1971 وأطلق شعار سيادة القانون ودولة المؤسسات، لكن ظلت الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية والسلطة التنفيذية بالدستور أُسوة بالحقبة الناصرية، وانفتح سياسيًا بقدر محسوب وسمح بهامش لحرية التعبير، والتعددية السياسية الشكلية، وكان حينئذ يمهد لتحرير سيناءالمحتلة، وفتح قناة اتصال سرية بواشنطن سعيًا لحلول سلمية لكن محاولاته فشلت، فكانت الحرب خياره الوحيد.
ويروي أنيس منصور المقرب منه أنه سأله مرة: ما القوى الدولية الكبرى عالميًا؟ فرد: سيادتك عارف ياريس، فقال السادات: لكني أريد الاستماع لإجابتك، فقال: اثنتان الاتحاد السوفيتي وأمريكا، فرد السادات مستنكرًا: خطأ، هناك قوٌة دولية واحدة فقط هي واشنطن»، وقد يُدهش كثيرون من هذا التقدير السياسي الصادم حينذاك، لكن مذكرات مراد راغب سفير مصر بموسكو لفترة طويلة وأبرز الخبراء بالشئون السوفيتية يدرك مدى نفاذ بصيرة السادات السياسية، خصوصا أن بعض القادة السوفيت كانوا منذ الستينيات قلقين على مستقبل إمبراطوريتهم، بسبب تخلفها تكنولوجيًا واقتصاديًا قياسًا بغريمتها، وهذا يفسر سر اقتناع السادات خلال تلك المرحلة المبكرة وما أعقبها لاحقًا، سواء بالتحضير للحرب أم التمهيد لإبرام اتفاقية السلام.
اعتمد السادات حزمة خطط عسكرية لتنفيذها خلال حرب أكتوبر وهي: «الخطة 200»، و«خطة الفريق صادق»، و«خطة المآذن العالية»، و«خطة جرانيت2» (بدر) التي اقترحها سعد الدين الشاذلي، وعدلت لتناسب أهداف الهجوم بالجبهة المصرية والسورية معًا، واعتمدت على تخطيط المخابرات العامة المصرية بخداع الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية والمباغتة بهجوم من جبهتي مصر وسوريا يوم 6 أكتوبر الموافق «عيد الغفران اليهودي، فهاجمت القوات السورية تحصينات إسرائيل بالجولان، بينما هاجمت القوات المصرية تحصينات إسرائيل بطول قناة السويس وعمق سيناء.
وعقب العبور وبينما كانت العمليات مستمرة بنقاط تحصين خط بارليف، قفز السادات خطوة للأمام تجاوزت التوقعات، بإيقاف القتال، والوقفة التعبوية التي انتهت بتوقيع اتفاقية السلام لاحقًا، وأرسل حافظ إسماعيل مستشاره للأمن القومي يوم 7 أكتوبر 1973، برقية سرية إلى هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي تتضمن تأكيد السادات «أنه لن يعمق مدى الاشتباكات ويشرح أهداف خوض الحرب» ولم يُفرج عنها إلا بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» حيث نشرها «مركز جيمي كارتر للسلام».
السلام والنهاية المأساوية
سبقت اتفاقيتا «كامب ديفيد» اللتان وقعهما السادات مع إسرائيل عام 1978، وما ترتب عليها من معاهدة للسلام عام 1979، ترتيبات واتصالات وتفاهمات دولية سرّية وشاقة، وأفضت بنهاية المطاف لتناغم المواقف وكانت بمثابة بداية لعصر جديد في السياسة الخارجية المصرية، ليس إزاء إسرائيل فحسب، لكن بالأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، وأثارت ضده مواقف مناوئة بمقاطعة عربية لمصر ونقل مقر الجامعة العربية لتونس، فضلاً عن تصاعد رفض المعارضة الإسلامية واليسارية لكن الاتفاقية صمدت، وبالمقابل يرى مؤيدوه أنها استعادت سيناء وحالت دون خوض حروب منذ عام 1979، كما استعادت سيناء بأكملها، برغم أجواء «السلام البارد» بين البلدين.
نعود لصديقه جامع الذي يروي عنه قوله: «أنا لم أحارب إسرائيل بل أمريكا بكل «هيلمانها» ولابد أن يدرك الشعب ذلك، وما فعلته مع إسرائيل منتهى طاقتي، وعلى الذين يأتون بعدي أن يحرروا القدس والضفة الغربية وغزة بالأفعال والرجال، وليس بالتصريحات والشعارات»، بينما يكاد يبكي منفعلاً.
وبمرور الوقت بدأ يضيق ذرعًا بالتعددية التي أسسها، ويتحدث عن «ديمقراطيةٍ الأنياب والمخالب»، وأصدر عدة قوانين وصفتها المعارضة ب«سيئة السمعة» ومنها «قانون الاشتباه» و«حماية الجبهة الداخلية» وغيرها من القوانين المقيدة للحريات وألغى لائحة 1976 الطلابية، ووضع بدلًا منها لائحة عام 1979 لتقييد النشاط الطلابي خصوصاً السياسي، وأجرى تعديلات تقيد حرية الصحافة بعدما شهدت بعض الازدهار، وحل مجلس نقابة المحامين وحوّل نقابة الصحفيين إلى ناد وغيرها من الإجراءات التعسفية. بحلول خريف عام 1981 شنت الحكومة حملة اعتقالات واسعة، شملت المنظمات الإسلامية ومسئولي الكنيسة القبطية والكتاب والصحفيين ومفكرين يساريين وليبراليين، ووصل عدد المعتقلين بالسجون لنحو 18 ألف معتقل عقب اضطرابات شعبية رافضة للسلام مع إسرائيل، وسياساته الاقتصادية خصوصا الانفتاح، وبعدما مدحه الإعلام الغربي لإبرامه اتفاقية السلام، انتقدته المنظمات الحقوقية والصحافة الدولية بسبب إجراءاته التعسفية، وظهر السادات بمجلس الشعب منفعلاً يكيل الشتائم للحُكّام العرب، وكل أطياف المعارضة، خصوصا حلفائه السابقون من الإسلاميين وقطاعات شعبية واسعة.
ولم يمر سوى شهر وتحديدًا يوم 6 أكتوبر، أغتيل خلال عرض عسكري بمناسبة ذكرى انتصار أكتوبر، نفذه الضابط السابق خالد الإسلامبولي الذي انخرط بتنظيم الجهاد الإسلامي المعارض لاتفاقية السلام وحملة القمع السبتمبرية الشهيرة بفتوى مفتي الجماعة الإسلامية عمر عبدالرحمن بتكفيره.