تكاليف مواجهة انفصال كردستان عسكريا أضخم فى العراق عن سوريا العراقوتركياوسورياوإيران تدفع ضريبة طموحات برزانى الشخصية إيران تنتظر انفجار العرب فى الأحواز وتحركات البلوش واقتراب إسرائيل
تم الاثنين الماضى الاستفتاء على انفصال كردستان العراق، وهو الاستفتاء الذي أثار الكثير من الجدل ليس داخل العراق، وفي محيطه الإقليمي وحسب، وإنما على الصعيد العالمي، ولأسباب عديدة ربما يأتي في مقدمتها أن المنطقة ينظر إليها، باعتبارها إحدى أكثر المناطق توترا في الشرق الأوسط وربما فى العالم، ففي الوقت الذي يبدو فيه أن الجهود العالمية لمحاربة داعش تكاد تؤتي ثمارها في القضاء على الوجود المعلن على الأرض للتنظيم؛ يفاجئ مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان العالم بإعلانه تنظيم استفتاء على انفصال إقليم كردستان العراق عن السلطة المركزية في بغداد .
ومنذ الإعلان عن النية لتنظيم هذا الاستفتاء تصاعدت وتيرة التصريحات والإجراءات الرافضة لتنظيمه من معظم دول العالم، وليس فقط من الدول الإقليمية التي تتماس مع قضية "استقلال الأكراد" بشكل مباشر، وبرغم هذا الرفض العالمي المعلن، مع تباين أسبابه، فإن الدول الإقليمية الأربع (العراقوتركياوسورياوإيران) التي تتشاطر الأزمة الكردية - إن صح التعبير - ستتحمل على ما يبدو القسط الأكبر من ضريبة وتبعات هذا الاستفتاء، فالعراق التي يشكل إقليم كردستان - حتى الآن على الأقل - جزءا من أراضيه سيدفع ثمنا باهظا لسنوات من الفوضى السياسية التي تلت الغزو الأمريكي للبلاد قبل نحو 15 عاما، وسنوات من الحصار قبلها، وفشلت حكومات العراق المتوالية في أن تقدم للأكراد بحسب كثير من المراقبين ما يدفعهم للتمسك بوحدة البلاد، والتخلي عن حلم الانفصال أو تأجيله على الأقل.
ربما تكمن خطورة الموقف التركي إزاء موضوع انفصال كردستان العراق في أن تركيا تضم النسبة الأكبر من الأكراد، والمساحة الأكبر مما ينظر إليه باعتباره كردستان التاريخية، ويشكل قيام "دولة كردية" على حدودها كابوسا لا تود النخبة السياسية التركية على اختلاف توجهاتها ومرجعياتها أن تراه حقيقة قائمة على الأرض، وسبق أن أعلنت أنها ستواجه بقوة السلاح - لو استدعى الأمر - إرهاصات تحرك مماثل على الأراضي السورية، بيد أن صعوبة التحرك في حالة كردستان العراق تحكمها محددات عدة، إذ إن القوة العسكرية ل"حكومة الإقليم" تفوق كثيرا تسليحا وتنظيما وخبرة وتمرسا بالقتال نظيرتها لدى "وحدات حماية الشعب الكردي" أو قوات "سوريا الديموقراطية" التي تشكل "الوحدات الكردية" عصبها الأساسي، وكذا المساحة الجغرافية المطلوب السيطرة عليها لوأد "انفصال كردستان العراق" تفوق كثيرا تلك المطلوب السيطرة عليها في سوريا.
يضاف إلى ذلك تباين خريطة التحالفات والوجود على الأرض بين الجانبين "العراقي والسوري"، ففي الوقت الذي توجد فيه على الأراضي السورية قوات روسية ليست فقط مستعدة لضرب "الأكراد" بل إن هناك تقارير أن ضربات عسكرية روسية وجهت بالفعل لقوات "سوريا الديمقراطية"، إضافة إلى وجود قوات عسكرية سورية وإيرانية وأخرى من حزب الله على الأرض في نقاط تماس عدة مع الميليشيات الكردية، وهو وضع مخالف تماما للوضع في كردستان العراق، وهو ما يجعل خيار التدخل العسكري التركي خيارا باهظ التكاليف ربما لا تستطيع الحكومة التركية تحمل تبعاته في الوقت الراهن. أما الأمر الثاني الذي يعقد الموقف التركي هو حجم العلاقات والروابط الاقتصادية بين تركيا وبين كردستان العراق، ففي الوقت الذي ينظر فيه الأكراد في شمال العراق إلى تركيا، باعتبارها الرئة الوحيدة والمثالية للاتصال بالعالم الخارجي إذ تعد المعبر الوحيد تقريبا لخروج صادرات الإقليم وعلى رأسها الصادرات النفطية، والمصدر الأساسي لتوفير احتياجات الإقليم من الخارج، خصوصا إذا زاد التوتر مع بغداد، فإن هذا الوضع عينه يمد حكومة أنقرة بزخم اقتصادي وثقل إستراتيجي هي في حاجة ماسة إليه حاليا مع تعقد علاقاتها مع عدد من أهم شركائها في أوروبا وفي المنطقة العربية.
أما على الساحة الإيرانية فيبدو الأمر أقل تعقيدا من الحالة التركية في ظاهره، إذ إن قيام دولة كردية على حدودها الغربية يهدد وحدة أراضيها ليس فقط من جهة أكراد إيران، وإنما سيكون الخطر الأكبر هو تنازع الأقليات التي تحكمها الدولة الإيرانية لسلوك المنحى نفسه، ولعل من أهمها العرب في الأحواز في الغرب والبلوش في الشرق وغيرهما، وهو ما يجعل المسألة بالغة الحساسية لدى حكومة طهران، يضاف إلى ذلك العلاقات الوثيقة والمعلنة بين حكومة كردستان العراق وحكومة إسرائيل، وربما تكون أحدث حلقاتها ترحيب حكومة نيتانياهو باستفتاء انفصال كردستان علنا لتكون الحكومة الوحيدة في العالم التي تقدم على هذه الخطوة، ما يجعل إعلان قيام دولة كردية على حدود إيران مدعومة ومؤيدة من حكومة إسرائيل أمرا، لا يمكن أن تسمح إيران بحدوثه طالما أمكنها هذا.
وعلى صعيد الحكومة السورية فإن الرفض المعلن والمتكرر من قبل العديد من مسئوليها لإجراء استفتاء كردستان يشي بالموقف الرسمي من قيام هذه الدولة على الحدود السورية، وليس خافيا - كما أكد عدد من المراقبين - أن مواجهة عنيفة ومرتقبة بين قوات الحكومة السورية وحلفائها من جهة وبين قوات حماية الشعب الكردية، أو قوات "سوريا الديمقراطية" قادمة لا محالة حال تمسك كل طرف بما يرى أنها ثوابته.
وإجمالا فّإن لدى حكومة بغداد وحكومات تركياوإيران بشكل أساسي القدرة على "خنق" الدولة الكردية حال قيامها، وهو أمر لا يبدو أنها ستتقاعس عن تنفيذه في ظل المعطيات الحالية، ولن تتأخر حكومة بغداد على المشاركة في هذا التحالف حال استقرار الأوضاع في الأراضي السورية.
التفجير من الداخل
بيد أن مواقف الدول الأربع، وغيرها ضد قيام دولة كردية في شمال العراق لا تعد العقبة الوحيدة في هذا السياق؛ بل ربما يكون الخطر الأكبر قادما من الداخل، ويمكن إجماله في عاملين أساسيين، الأول: أن حكومة كردستان التي تمارس تقريبا صلاحيات الدولة المستقلة منذ العام 1992م، أي منذ ربع قرن تقريبا لم تنجح في تقديم نموذج لدولة أو حتى إقليم يتمتع بقدر كبير من الاستقلال، وبرغم الاستقلال الكبير في التعامل مع الموارد الطبيعية للإقليم، وعلى رأسها النفط بطبيعة الحال ما وفر مداخيل مالية ضخمة لحكومة الإقليم، فإن مصارف هذه الأموال لم تتمتع بالقدر الكافي من الشفافية ما تسبب في سخط كبير لدى قطاع لا بأس به من الطبقة السياسية في الإقليم، كما لم يشهد الإقليم تنمية حقيقية في مختلف مناطقه، ولكن الأهم في هذا السياق هو الممارسة السياسية التي تنتهجها حكومة الإقليم، فالوضع القائم ليس ديمقراطيا بحسب معظم المقاييس السياسية القائمة، فالسلطة في الإقليم شديدة المركزية، ويتمتع برزاني بسلطات وصلاحيات شبه مطلقة، فيما برلمان الإقليم معطل منذ عامين، وعقد جلسة استثنائية منذ أيام قبيل الاستفتاء للإعلان الموافقة على إجرائه، وسط مقاطعة عدد لا بأس به من أعضائه، ما أعطى انطباعا بخضوع برلمان الإقليم لسلطته التنفيذية المتركزة في قبضة بارزاني ودائرة قريبة من المقربين إليه، فالانطباع القائم أن سلطة الإقليم لا تعتمد الأسلوب المؤسسي في إدارته.
أما العامل الثاني: فهو أن النخبة السياسية القائمة والنافذة في الإقليم ليست على "قلب رجل واحد" وبرغم أنه لا يوجد صراع علني قائم بين أقطابها كما حدث في أزمنة سابقة، فإن خلافات جذرية بين توجهات وتحالفات هذه الأقطاب تبقى كامنة تحت السطح، ومرشحة للتفجير في أي لحظة، خصوصا إذا حدثت تدخلات إقليمية أو خارجية في الإقليم. ووفق المعطيات السابق عرضها يبدو أن لجوء برزاني إلى موضوع الاستفتاء ما هو إلا مغازلة لتطلعات أمة مثل استقلالها حلما راسخا في عقول أبنائها على مدى أجيال عدة، وتمت تغذيته وتدعيمه واستغلاله داخليا وخارجيا على مدى قرون، وربما تكشف الأيام المقبلة، وتبعات وتداعيات الاستفتاء ما إذا كان هذا الإجراء الأخير الذي أقدمت عليه حكومة الإقليم أمرا مختلفا أم مجرد فصل يتلو فصولا عديدة سابقة.