تحطُّ خيولُ المغولِ قديماً على كَتِفَي أوجلان الوحيدُ هنا وهنالك... في حيث تنتفضُ الرُّوحُ زاعقةً فوقَ أضرحةِ الشهداءْ والحزين الذي قتلَ الضعفَ والذلَّ في رحلةِ النَّفيِ والابتلاءْ الغريبُ المقدَّس في صلواتِ تمرُّده المتفرد في حالتيه شموخ الإرادة والانتماء * * * أوجلان أيها الحارس الجبلي الذي انتزع الشمس من كهفها ذات ليل وراح يدحرجها خلفه كرة ضخمة من دخان - هو ذا مجد مثلك في صنع مثلك في مثل هذا الزمان - هو ذا قدر الحق ما بقيتْ رايةُ العدلِ ساقطةً... والجريمةُ صاحبةُ الصولجانْ...
هكذا تحدث الشاعر محمد الفيتورى عن القائد الكردى عبد الله أوجلان عقب إلقاء القبض فى عملية شاركت فيها المخابرات الأمريكية والتركية والإسرائيلية فى نيروبى، بعدما اضطر لمغادرة سوريا إبان حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، ليرفع الحرج عنه بعد الضغوط التركية التى أوشكت أن تتحوّل لحرب ، بزعم إيواء دمشق لأوجلان والسماح لحزب العمال الكردستانى بالانطلاق من أراضيها وسهل البقاع اللبناني، وتوجه بداية لأوروبا وحاول الحصول على حق اللجوء السياسي، لكن دول أوروبا «المتحضرة» رفضت طلبه بعدما وصمته تركيا شريكتها فى حلف «الناتو» بالإرهاب، بينما يستقبل نظام أردوغان آلاف الإرهابيين المنتمين لتنظيمات مارست العنف بشتى أنحاء المنطقة، ومنحتهم ملاذًا آمنًا، ودعمتهم وسلحتهم وأفسحت المجال ليطلقوا فضائيات تحريضية، بينما كانت ومازالت قضية أوجلان عادلة فى الدفاع عن حقوق الأمة الكردية الممزقة بين أربع دول، أذاقتها أبشع ممارسات الاضطهاد والتعتيم والإقصاء.
ربما لم يتوقع والد أوجلان الفلاح البسيط أن ابنه الذى ولد عام 1948 ببلدة «أوميزلي» بمحافظة «شانلي» على الحدود التركية - السورية، وهو الأكبر بين سبعة إخوة، فى بيئة يسودها الفقر والإحباط، سيصبح «أيقونة الكرد» وقائد المقاومة الذى استمد صلابته من وعورة جبال كردستان ومُدافعًا عن الهويّة القوميّة، بعد عقود من القهر والصهر للكرد منذ تأسيس الجمهورية التركية، فقد درس العلوم السياسية بجامعة أنقرة، وعاد لمدينة ديار بكر، وتأثر بالحركة القومية الكردية، ليؤسس «حزب العمال الكردستاني» الذى اشتهر اختصارًا بPKK عام 1978، وانطلقت ملحمة النضال للانبعاث، وتحرير شعب تخيل الطُغاة إمكانية دفنه فى قبر أسمنتى كُتِبوا على شاهده «كردستان التى تتخيلونها مدفونة هنا»، لكن قضايا الشعوب تتحدى القمع مهما تعرض لسياسات الإنكار والمجازر التى جسّدت كيانًا ثوريًا يؤمن بحقوق الشعوب فى تقرير مصيرها، وانطلاقة بدأت بمجموعة طلبة يؤمنون بالأخوة التاريخية المشتركة لشعوب المنطقة، وتحولت لحركة شعبية عارمة استطاعت إحياء «المظلومية الكردية» برغم تجزئتها فى مستهل القرن العشرين، وكانت تعيش حقيقة مجتمعية راسخة، لكن الحزب خلق تاريخًا جديدًا لهوية وأعاد إحياء حضارة عريقة، ورسم مستقبل الشعب الكردى سعيًا لتحقيق حلمه التاريخى المشروع.
ألهم مشهد أوجلان عقب اختطافه ونقله لجزيرة إمرالى مُكبّلاً أنصار القضية الكردية للتظاهر بشتى العواصم الأوروبية، وأمام سفارات تركيا وأمريكا وإسرائيل، فالرجل فى عيون شعبه والمتعاطفين مع مأساته التاريخية وطنى مناضل لتحقيق حلم «كردستان» وبينما يبيد الجيش التركى بدمٍ بارد المطالبين بحقوقهم التاريخية، يلتزم العالم «الديمقراطي» الصمت المتواطئ، ووضع أوجلان فى الحجز الانفرادى بجزيرة إمرالى فى بحر مرمرة بتركيا منذ القبض عليه، وبرغم محاكمته العسكرية التى كانت مهزلة قضى فيها بالإعدام، لكن الحكم خُفض للسجن مدى الحياة عندما ألغت تركيا، وبشكل مشروط عقوبة الإعدام فى أغسطس 2002، كإحدى الخطوات التى تمهد لانضمامها للاتحاد الأوروبي.
أما الغرب فطالما صمت عقودًا بانتهازية على جرائم تركيا لانتمائها للحلف الأطلسي، لكن محاولات «العثمانيين الجُدد» التستر بالقناع الغربى، فُضحت خلال حكم أردوغان وحزبه الإخوانى تبخر حلمها بعضوية الاتحاد الأوروبي، وارتدت لخرافة الخلافة التى أذاقت الدول العربية شتى صنوف الإهانات وسرقة مقدراتهم واستبدادهم، وتحطم الحلم الطورانى بيد إخوان «العدالة والتنمية» وراحت تراودهم أوهام إحياء «الإمبراطورية العثمانية» واتضحت أطماعهم فى الدول العربية، وصارت تُترجم بوضوح من خلال علاقة تركيا المراوغة والطامعة بثروات العرب، سواء بعقد الاتفاقيات ضدهم أم تحالفهم الإستراتيجى بالغرب وإسرائيل وانتهازيتهم الفجّة خلال الأزمة القطرية المحتدمة، ناهيك عن اقتطاع لواء الإسكندرونة العربى من سوريا.
التف حول أوجلان رفاقه فى تأسيس الحزب ومنهم جميل بايك، دوران كالكان، ومصطفى قره الذين يروون ملحمة تدشين PKK ومؤتمره التأسيسى، الذى عُقد فى ديار بكر وتحديدًا بقرية «فيس» لمدة يومين باشتراك 23 شخصاً فقط، وأوضح خلال مقابلات أجراها مع وسائل الإعلام الكردية أن مسمى PKK كان باقتراح الشهيد محمد قره سونجور، وأكد كالكان ومصطفى قره، أن تأسيس الحزب دشن حينذاك إضافة كبيرة للقوى التقدمية، وأن المؤتمر الذى عُقد بتاريخ 27 نوفمبر 1978 وبدأ نشاطه بمجموعة مؤلفة من ستة أشخاص فقط بأنقرة، لكنه حقق توسعًا هائلاً بتوجهه صوب كردستان، بحيث سطّر نصرًا مشهودًا بتاريخ نضال الشعب الكردى سعيًا للتحرر وإعادة طرح القضية للاهتمام الدولى بعد التعتيم المتعمد عليها. بدأ الحزب من العدم بكلمتين «كردستان مستعمرة»، ويمكننا تسمية الظروف التى تشكلت وتطورت فى الجزء الشمالى لكردستان بدايات السبعينيات بأنها مرحلة ميلاد تنظيمية، استطاعت التقدم والوصول لكيان حزبى مكتمل سواء على الصعيد الأيديولوجى أم التنظيمى العملياتي.
وحسب شهادات رفاق أوجلان، فسيكون الأمر أكثر موضوعية إذا اعتبرت مرحلة تطور أساسية، فالتراكم السياسى والقتالى والثقافى يجسد ويمهد عملية التأهيل، لمواجهة ممارسات القمع والإقصاء التى مارستها الأنظمة التركية المتعاقبة، وتفاوتت فقط فى حجم تعصبها وشوفينيتها ووحشيتها بحق ملايين الكرد بتركيا، ناهيك عما عاناه أشقاؤهم بإيران والعراق وسوريا التى كانت تربط قيادتها صلة طيبة بالقائد أوجلان حتى هددتها تركيا.
تبقى فى النهاية رؤية طرحها الأمريكى ستيفن مانسفيلد مؤلف كتاب «معجزة الكرد» الأكثر مبيعًا، الذى يرى موقف بلاده متناقضًا، فواشنطن ترفض اعتبار جماعة «الإخوان المسلمين» إرهابية برغم تاريخها الدموى المستمر، وتتهم أيقونة الحلم الكردى بالإرهاب برغم معاناته القمع والاضطهاد، منذ قيام البعث العراقى باستهدافهم بالأسلحة الكيماوية، حتى أصبحوا يسمون أنفسهم: «شعب بلا أصدقاء» ويعتبر مانسفيلد استمرار الكرد «معجزة» موضحًا أنهم برغم الحروب والقمع والشتات، أعادوا بناء مدنهم ببراعة، ففى المواقع التى أبادتها القنابل وشهدت مذابح ، بُنيت الجامعات والمدارس وأرقى الفنادق مؤكدين صلابتهم، وفى نفس الوقت يشهد تاريخهم باعتدالهم وقبول الآخر من أديان ومذاهب شتى بالإضافة لكونهم مقاتلين أشداء، وهذا أمر ماثل للعيان حاليًا بقتالهم لتنظيم «داعش» الإرهابي، وهزيمته فى عدة مناطق بالعراق وسوريا.