دبلوماسية «حد الموسى» الناعمة القاطعة .. وربيب الداهيتين «بندر والفيصل» «حد الموسى» إحدى روايات الأديب البريطاني الشهير «سومرست موم» كتب في مقدمتها: «السير على حد الموسى المرهف مخاطرة وعرة، لكنها الطريق إلى الخلاص رغم كونها مهمة عسيرة» ولعل ذلك المنهج في سياقه السياسي يشكل إحدى سمات الدبلوماسية السعودية منذ نشأة الدولة ، ورسخه الراحل الأمير سعود الفيصل خلال مسيرته الطويلة التي تجاوزت أربعة عقود، لكنها لم تُدفن مع جثمانه، بل أفرزت جيلاً جديدًا استثمرت خلاله السعودية ودول خليجية أخرى في الإنسان والأجيال الشابّة، انطلاقًا من قناعة صُنّاع القرار بأن «ناموس الحياة يقتضي نقل المسئولية من الآباء للأبناء، ورغم تجذر الرؤى التقليدية بتلك المجتمعات فقد تراكمت لديها خبرات وتجارب سياسية واجتماعية وتناغمت الأسرة الحاكمة مع البيئة القبلية من جهة، وتشابك مصالحها مع الغرب من جهة أخرى، لتبلور ما يمكن تسميته «الكود السعودي» ليصبح بمثابة دستور غير مكتوب، على غرار النظام البريطاني حيث تُعد وثيقة «الماجنا كارتا» أو «الميثاق الأعظم» هي الدستور العرفي لأعرق الديمقراطيات، وبالطبع فالقياس مع الفارق بين الموروث الإسلامي العربي والثقافة الغربية، لهذا وجدت السعودية نفسها في مواجهة عصر الحداثة مثقلة بإرث اجتماعي وديني متجذر باعتبارها مهد الإسلام وموطن الحرمين، لذلك تراكمت منذ عهد الملك المؤسس مرورًا بأبنائه خبرات منظومة حكم مرنة حينًا، صارمة أحيانًا، وسعت بصبر للتناغم السياسي والاجتماعي وتطويع الأعراف الاجتماعية لمقتضيات الحداثة، دون المساس بجوهر العقيدة والتقاليد.
من تلك الدائرة الحرجة التي تتطلب السير على «حد الموسى» جاء عادل الجبير وزير الخارجية السعودي المولود بمنطقة تختزن التقاليد النجدية الصارمة، وهي قرية «حَرْمَة» بمنطقة «سدير» وفي منزل متواضع يفتقد للبنية التحتية كالماء والكهرباء، لكن والده العصامي الطموح الذي ترك بصماته بشخصيته انتقل للعمل بشركة «أرامكو» وواصل تعليمه ليصبح ملحقًا ثقافيًا للمملكة بألمانيا، حيث تعلم الجبير بعدة دول بدأت بالسعودية وانتقل لألمانيا واليمن ولبنان ليتجه بعدها لديار «العم سام» وربما لم يكن في حساباته العيش هناك لعقدين، بداية بجامعة «نورث تكساس» حيث حصل على بكالوريوس العلوم السياسية، وتعرف على «ديك آرمي» أستاذ الاقتصاد الذي صار لاحقًا بين عامي 1995 و2003 زعيمًا للأغلبية الجمهورية بمجلس النواب الأمريكى، لهذا انتقل للعاصمة واشنطن، حيث حصل على ماجستير العلوم السياسية من جامعة «جورج تاون» ومجددًا شاءت الأقدار أن تلفت شخصيته وسمعته من بين آلاف المبعوثين السعوديين اهتمام الأمير بندر بن سلطان السفير السعودي حينذاك، لذلك كلفه عام 1986 بالعمل مساعدًا بالدائرة الإعلامية لشئون الكونجرس، وانطلقت مسيرة جديدة تشابكت فيها عدة محطات مع طموحه المعرفي، متمثلاً بعشقه للقراءة بالإنجليزية والألمانية اللتين يجيدهما كالعربية، وارتياده المحافل العامة وتطوير قدراته وتوسيع دوائر اتصالاته على شتى الأصعدة.
ثمّة أمر آخر يتمثل بعلاقات الجبير التي بدأت تتعمق مع دوائر صنع القرار الأمريكى منذ الثمانينيات حين عمل ضابط اتصال للأمير بندر بن سلطان خلال حملة العلاقات لشراء المملكة طائرات F15 وبذل جهودًا جبارة أثناء حرب الخليج الثانية واستقر في الظهران، وتنبأ بخطر نظام صدّام حسين على السعودية قبل غزو الجيش العراقي للكويت وحذر الأوساط الأمريكية من ذلك، وبالفعل اندلعت معركة «عاصفة الصحراء» عام 1991 لتكون أولى المحطات التي ظهر فيها متحدثًا باسم سفارة السعودية بواشنطن ويصبح «النجدي الهادئ الخجول» وسط دائرة الأضواء الإعلامية الأمريكية الصاخبة، لينضم بعدها للوفد الدائم لبلاده بالأمم المتحدة، وبين عامي 1994 و1995، كما عمل زميلاً دبلوماسيًا في مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك، قبل تعيينه عام 1999 مديرًا للمكتب الإعلامي السعودي بالولايات المتحدة.
وكأنما واشنطن قدره المحتوم لتمنحه الفرصة تلو الأخرى لإثبات قدراته فعقب تفجيرات 11 سبتمبر 2001 كُلف الجبير بالتصدي لمعركة الاتهامات الضارية بالدوائر السياسية والإعلامية لبلاده وربطها بالإرهاب لتورط 15 سعوديًا من بين 19 نفذوا التفجيرات التي هزّت أمريكا والعالم بأسره، حتى أصبح الجبير وجهًا مألوفًا لدى مؤسسات الإعلام الأمريكية والدولية، فمارس دور المحامي الدبلوماسي الذي يمتلك أدواته، وكان حضوره واضحًا ومؤثرًا بمعالجة الأزمات التي عصفت بالعلاقات السعودية الأمريكى، كما حدث حينما توجه لواشنطن مجددًا عام 2004 لاحتواء عاصفة اليمين الأمريكى الشرسة، خاصة بعد سلسلة الهجمات الإرهابية التي شهدتها السعودية، ونظّم رحلة لوفد من أعضاء نافذين بالكونجرس للسعودية حتى يحاصر هجمات اللوبي المناوئ لبلاده.
ورغم مهاجمة عشرات المعلقين الإعلاميين الأمريكيين للجبير، فقد أشاد إعلاميون آخرون بمختلف اتجاهاتهم بكفاءته، إذ وصفه بلتزر، المذيع الشهير بشبكة «CNN» بأنه «ذكي وحصيف»، وقال أورايلي ، مقدم البرامج بقناة «فوكس» اليمينية، إنه «يعرف كيف يشرح وجهة نظره» وأيضًا واجه الجبير انتقادات لاذعة كوصفه بأنه «يُجيد بيع دهن الثعبان لواشنطن» في إشارة لمهارته الدبلوماسية والإعلامية، وقالت صحيفة «واشنطن بوست» إن الجبير يقدم وجهًا ناعمًا للقيادة السعودية، ويستخدم تعبيرات شعبية طريفة مُحببة للمزاج الأمريكى، فتارة يشبه نفسه بالممثل «كوجاك» وأخرى بلاعب السلة «مايكل جوردان» فهو محامٍ متمكن يتسم بالثبات الانفعالي ويُتقن اللكنة الأمريكية بطلاقة، ووصفه إبراهام فوكسمان الناشط اليهودي الأمريكى ورئيس اتحاد مكافحة التشهير بأنه يفهم المجتمع الأمريكى جيدًا ودائمًا ما يُخبرك بما تريد أن تسمعه بطريقة ناعمة ومنطقية، ويبدع بتطعيم حديثه الهادئ بلغة تجد طريقها لوجدان المواطن الأمريكى العادي، بالإضافة لكونها مقاربات ذكية تُثير مُخيلة المثقفين والسياسيين المحترفين» كما اعترف خصوم السعودية بأنه رغم الخلافات مكسبٌ لبلاده وتسويق سياساتها ببراعة حطمت الصورة النمطية للدبلوماسيين العرب عمومًا، والخليجيين خاصة.
في تلك الأثناء كانت العيون بالرياض تراقب أداءه المتميز وإدارته للمعارك الصعبة فابن «الكود السعودي» تمكن بحنكة كاريزماتية، امتزجت فيها دراسته وخبراته الواسعة بالمجتمع الأمريكى ودوائر صناعة القرار أن يُعبّر بحصافة وهدوء عن سياسات بلاده، حتى وصفته مجلة «كويل» التي تصدرها الجمعية الصحفية الأمريكية بالمهارة والحرفية ، ليس بتصريحاته الصحفية فحسب، لكن أيضًا بترتيب الاتصالات المعلنة والسرّية بين كبار المسئولين السعوديين والأمريكيين، لذلك لم يكن مستغربًا لمن يعرفونه عن قرب أن يستدعيه العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله حين كان وليًا للعهد وصانع القرار السياسي عمليًا منذ 1995، نظرًا لحالة الملك فهد الصحية ليكون مستشاره الخاص للسياسة الخارجية، ولذلك أصبح الجبير متنقلاً بين واشنطن والرياض بانتظام، وبمجرد اعتلاء الملك عبدالله سُدّة العرش عام 2005 عيّن الجبير مستشارًا بالديوان الملكي بدرجة وزير.
وبعد عامين فقط لعبت سلسلة تطورات داخلية ودولية دورها لتُعيد الجبير لبلاد «العم سام» والتي بدت طيلة مسيرته التعليمية والدبلوماسية، وكأنها قدره المحتوم، لكنه دخل واشنطن هذه المرة سفيرًا لبلاده، وحينها أثار ذلك جدلاً واسعًا بالرياض فهذا المنصب ظل حكرًا على أبناء الأسرة الحاكمة، وأيضًا بالعاصمة الأمريكية وصفت صحيفة «واشنطن بوست» هذه الخطوة بأنها تحول نوعي للدبلوماسية السعودية لتكليف شاب خدم في واشنطن كمساعد خاص للسفير الأسبق الأمير بندر بن سلطان، واستفاضت بتناول التحديات التي تواجهه بخلافة أمير وسفير يتمتع بقدرات خاصة وخبرات عميقة، وهو رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق وكان يتحرك بحرية في الملفات الدولية.
ولاعتبارات وحسابات بالغة التعقيد انتظر الجبير ثلاثة شهور قبل تقديم أوراق اعتماده رسميًا للرئيس الأسبق جورج بوش بتعيينه سفيرًا لبلاده لدى واشنطن، وتزامن ذلك مع المرحلة التي بدأت فيها مخططات خارطة جديدة للشرق الأوسط، وإن اتسمت بالارتباك وتشويش الرؤية، بسبب شيخوخة النظام الرسمي العربي بعدة دول، وتصاعد المشروع التوسعي الإيراني بالمنطقة، الأمر الذي كان يتطلب مبادرات سريعة تتجاوز حكمة وتأني شيوخ السياسة والدبلوماسية ، وحينها أدرك الجبير حجم المخاطر المحدقة خلال المرحلة المُقبلة بالشرق الأوسط، فساهم بنصائحه ومعلوماته وتحليلاته لصُنّاع القرار بالرياض بأن الوقت حان لسرعة إعادة رسم ملامح «دولة جديدة» تتناغم فيها وضعيتها الدينية وتقاليدها العربية، وباتت محورًا لحلف إقليمي جديد يتصدى لمؤامرات إشاعة الفوضى وإعادة تفكيك وتركيب خرائط المنطقة، واستمع إليه باهتمام العاهلين الراحل عبدالله، والحالي سلمان والدوائر المقربة لكليهما، لإدراكهما عُمق خبراته واتساع دوائر اتصالاته خاصة أن الأمور وصلت لمرحلة «الحروب بالوكالة» لتحقيق مشروع الخميني بتصدير الثورة وأوهام «عُصبة الملالي» بقيادة العالم الإسلامي. لهذا كان منطقيًا أن تقضي محكمة مانهاتن الفيدرالية بالسجن 25 عاماً على الأمريكى من أصل إيراني، منصور أرباب سيار، عقب إدانته بمحاولة اغتيال عادل الجبير حين كان سفيرًا لدى واشنطن، وأقر سيار المقيم في ولاية تكساس، ويحمل جوازًا إيرانيًا بأنه مذنب بتهمتي التآمر والقتل مقابل أجر، كما اعترف بأنه كان مكلفًا من قبل مسؤولين عسكريين إيرانيين للذهاب إلى المكسيك عام 2011 لترتيب محاولة الاغتيال بتكليف من «فيلق القدس» وهو فرع من «الحرس الثوري الإيراني» الذي صنفته وزارة الخزانة الأمريكية في عام 2007 بأنه داعم للمنظمات الإرهابية وحركة طالبان.