انهمرت دموعي فرحا بمشهد الليبيين وهم يصطفون في مراكز الاقتراع. كان ذلك المشهد ضربا من المستحيلات عندما كنت أغطي أحداث الثورة الليبية في شهر مارس 2011. انتخاب الجمعية الوطنية حلم ما كان ليتحول إلى حقيقة لولا التضحيات الكبرى بأرواح الشهداء وإصابات الجرحى وآلام الثكلى والأرامل واليتامى. صحيح أن خسائر الثورة الليبية ثقيلة في الأرواح والأموال، ولا تقارن بجارتها التونسية أو المصرية التي سقطت أنظمتهما في بضعة أيام، وربما لا تماثلها بشاعة إلا النّزف المستمر للدّماء السورية البريئة على مرأى ومسمع من العالم المتكلس تحت وطأة ضغوط تلك المصالح الدولية التي تتغذى على جروح السوريين المتقيّحة كما يتغذى العلق على الدم! ويعلق الليبيون على المؤتمر الوطني آمالا كبيرة في تأسيس الدولة الليبية الحديثة والتعددية التي تحقق الاستقرار وتصون حقوق المواطن والقادرة على إيصال ليبيا في النهاية إلى بر الأمان. أكثر من مليونى ناخب أقبلوا على الإدلاء بأصواتهم، حيث إن المواطنين البالغين ستين عاما مثلا لم تتسن لهم مطلقا المشاركة في أي انتخابات من قبل، فقد ظلت ليبيا نحو نصف قرن خارج التاريخ، وكانت المؤتمرات الشعبية هي التي تحكم الجماهيرية العظمى المزعومة .. وقد يقول «المتسائلون» إنني أستخدم اللغة الفرائحية والمشاعر الزاهية إزاء هذا المشهد، بينما هو مليء بالعثرات والانتكاسات. بالتأكيد الواقع الليبي الراهن ليس مزدانا بالورود، والمشهد به بعض الارتباكات، فهناك أكثر من 100مركز انتخابي لم تفتح أبوابها بسبب الاضطراب الأمني وفقا لما أعلنته المفوضية العليا للانتخابات، لكنّ المتوقّع كان أكثر من هذا، في ضوء انتشار قطع السلاح في أيدي المواطنين ومجموعات الثوار الذين رفضوا الانضواء تحت لواء الجيش إضافة إلى أسلحة مهولة لدى أنصار النظام السابق وبعض القبائل، وشهدت أحداث الزنتان، ومطار طرابلس، ونزاع قبائل في المنطقة الشرقية، استخداما للأسلحة الثقيلة! ولا ينكر عاقل استفحال الخلل الأمني حتى إن الطرق السريعة بين المدن أصبحت غير آمنة للسفر، كما لا ينكر عاقل التأثير السلبي لانتشار السلاح خصوصاً إذا كان يحاول فرض واقع جديد لنفوذ قبلي، أو فئوي أو جغرافي .. ولا يخفى تصاعد نفوذ جماعات الإسلام السياسي، وفصيلهم الرئيسي الإخوان المسلمون - الذين لمست حضورهم الطاغي في رحلتي إلى ليبيا الثائرة - هؤلاء كانوا يخوضون صراعا دمويا مع نظام معمر القذافي درّ عليهم تعاطفا من غالبية الشعب الليبي، ثم تحولت دفة الصراع في وقت مبكر من عمر الثورة إلى مواجهات مع المجموعة الإصلاحية، وأبرز قياداتها الدكتور محمود جبريل، وإذا كانت مظاهر المواجهة سلمية في غالبيتها واتضحت في المنافسة السياسية خلال الانتخابات الأخيرة بين حزب العدالة (الإسلامي) وتحالف القوى الوطنية (الليبرالي)، إلا أنها تشيع جوا ملبدا بالغيوم حول اتجاهات المستقبل. فهناك هواجس لدى البعض من سيطرة الجماعات الإسلامية التي اضطلعت بأدوار عظيمة منذ قيام ثورة 17فبراير ورجحت كفة القوى الثورية في إخماد أنفاس القذافي وأضلع نظامه وكتائبه، وتزيد مخاوف هذا الفريق عندما يشاهد عددا ممن لديهم ولاءات للإخوان المسلمين ترشحوا كمستقلين في الانتخابات، وبالتالي سيكونون القوى الخلفية داخل الجمعية الوطنية لمعاضدة النواب الفائزين عن كتلة الإخوان. وهناك مخاوف أخرى من عودة رجال القذافي عبر صناديق الانتخاب، في ظل عدم تمرير قانون العزل، كما لا يمكن تجاهل اللاعبين السياسيين بورقة الفيدرالية والترويج لفكرة التقسيم، لأنهم عانوا خلال خمسة عقود من مركزية الإدارة والتهميش السياسي والاقتصادي .. وهي الفزّاعة التي أخافت الليبيين بل ومعظم شعوب المنطقة من تقطيع أوصال ليبيا شرقا وغربا. برغم تلك المخاوف فإن واقعا يولد بعد انتخاب الجمعية الوطنية ينبئ بأن ليبيا الآن مستعدة لبناء غد أفضل. المستقبل الواعد يفتح أحضانه لأبنائها، بلد غني، ثروتها في آبار النفط والغاز وفي امتدادها الجغرافي، كما أن عدد سكانها القليل 6 ملايين نسمة، سيجعل من النمو قاطرة سريعة لتحسن أوضاع الناس – التقارير الدولية تقول إن نسبة النمو ستصل إلى 30 % العام الجاري - والدخل الفردي سيكون مرتفعا وهو ما سوف يدعم بناء المؤسسات كالتعليم والصناعة والاستثمارات العالمية التي تقف على البوابات الليبية تنتظر الاستقرار النسبي .. لتتحقق الرفاهية في غضون سنوات قليلة. كل المعطيات تحيلنا إلى ازدهار اقتصادي مرتقب في البلاد وفي المنطقة برمتها، وعندما يزدهر الاقتصاد تقل المشاكل الاجتماعية وتخبو شرارات العنف والتناحر والتفتت بدوافع قبلية، أو جغرافية، أو دينية أو طائفية. الأولوية القصوى الآن لواجب مهم وأساسي في بناء الدولة وعودة هيبتها وهي السيطرة على السلاح والمسلحين، كما أنه لا مجال لقائد أو ثائر يأمر وينهي الناس .. فمن أراد ذلك فباب الحراك السياسي مفتوح. أما المشكلة المستفحلة والتي تتطلب جهودا مضنية فهي الإطاحة بثقافة سائدة وعادات سيئة، فلا يكفي أن ينجح الليبيون في إسقاط ديكتاتور، كان عصيا على الإطاحة، بل لابد أن تسقط الديكتاتورية داخل كل مواطن ليبي، الكثيرون مازالوا لا يفرقون بين عرض الرأي وفرضه بالقوة، و امتدّ ذلك السلوك إلى عرقلة التجارة الداخلية على الطريق الساحلي، والاعتداء على مراكز مفوضية الانتخابات، وإغلاق مرافئ نفطية ومطارات ومعابر برية واستعمال القوة في نزاعات بين قبائل أو مدن. إن المجتمع الديمقراطي هو الذي يتقن فن الحوار، ويبحث عن حلول واقعية مبنية على العلم و التجربة الإنسانية الغنية، وجل شرائح المجتمع ترغب الآن وبشكل ملحّ في لمّ الشمل وتوحيد الصف ونبذ الفتن .. جل الليبيين يريدون أيضا أن يبقى الثوار أبطالا في عيون الشعب وأن يستقروا في ضمير الأمة رموزا وشموعا مضيئة في تاريخها، كما كان جدهم عمر المختار. وسأستدعي أبيات الشاعر عاطف الجندي من قصيدته حول الثورة الليبية لنقول معه لأبطال ليبيا.