لم يكن مجرد كاتب لفت إليه الأنظار بقصصه ومسرحياته ورواياته ومقالاته الأدبية المثيرة, وبما خاض من معارك قلمية وعلي أرض الواقع, ولكنه كان شعله ثقافية متقدة, تخرج علي كل ما هو تقليدي ودارج. وبقدر ما كان يوسف إدريس يعبر عن هويته المصرية في الرؤية والإحساس واللغة, كان أدبه ينبض بروح العصر والحداثة والحرية التي لا تعرف الحدود, لأنه من هذه الحدود ومن القوانين الصارمة التي تفرضها النظم علي الأفراد والجماعات, تنشأ الفوضي, وفي أحسن الحالات ينشأ التمرد, حتي يتحقق للإنسان وجوده المرادف للحرية المطلقة. وهذه الحرية وحدها هي التي تحمي نفسها. كانت القرية بدرويها وفلاحيها التعساء, وكانت المدينة بطبقاتها المتفاوتة بين القمة والقاع, الساحة المحببة إليه, التي يخطر فيها بموهبة الفنان المدرك لكل أبعادها المادية والنفسية, ولكل ما تحمل من زخم. وكان إيمانه بفنون شعبه التلقائية لا يقل عن قدرته علي مزج الذاتي بالموضوع في الفن, أو عن خياله الجامح في إيجاد موضوعاته, وشطحاته المحكمة التي تبدو بعيدة عن الواقع والمنطق, وهي أكثر تعبيرا عنه وعن حقائق الوجود من الأعمال الواقعية والتسجيلية. ولو أن يوسف إدريس عاش حتي الخامس والعشرين من يناير لفض سر الثورة التي بهرت العالمين, كما حاول أن يفض سر الخليقة كلها, ولأجاب علي الكثير من الأسئلة المعلقة التي غدت فيها مصر, بالقانون الطبيعي, كتلة واحدة, أو ظاهرة كونية مترابطة, تسترد بها عافيتها وكرامتها الإنسانية. وعلي الرغم من أننا قد نجد بين كتاب جيله من يفوق يوسف ادريس في لغته وتقنياته, لن نجد بينهم من يملك ما يملكه من الحس الشعبي, والفهم الدقيق للعمل الفني الذي يتضح في مقدمات كتبه, وفي الملاحظات التي وضعها لمسرحياته التي تطرح ما في حياتنا من معضلات, ويبيح فيها للممثل فقط أن يرتجل ما يراه, إذا تجاوب معه الجمهور, وغدا قادرا علي أن ينظر بعيون هذا الجمهور. أما المخرج فلم يكن يوسف إدريس يسمح له أن يغير حرفا واحدا من نصوصه, خاصة أنه ظهر في هذا التاريخ من المخرجين من يزعم أن العمل المسرحي يجب أن ينسب إلي المخرج, لا إلي المؤلف, باعتبار المخرج هو صانع العرض المسرحي. وبفضل هذا الرصيد المعرفي عرف يوسف ادريس كيف يحيي في مسرحية الفرافير مسرح السامر الشعبي بعد أفوله, رغم أنه كان بمقدوره أن يستعير أشكال المسرح الأوروبي, الكلاسيكي والحديث, الذي قرأه بلغته. كما كان بمقدوره أن يفعل هذا الصنيع في القصة, وأن يظفر من النقد الذي كتب عنه, نجاحات أكثر مما أصابه, ورجما بالحجارة أقل مما تعرض له. ولكنه لو فعل لخان نفسه قبل أن يخون ثقافته المصرية التي اكتشفت جوهرها في أربعينيات القرن الماضي, في غضون المعارك الوطنية ضد الاستعمار والمطالبة بالاستقلال والديمقراطية, واكتشف أيضا, في هذا التاريخ, ما في هذه الثقافة من كنوز الخبرة والحكمة, لأنه لم يفصل شكل الفن عن مضمونه,ولا فصل تقنيات الفن عن رسالته. وليوسف ادريس مقالات عديدة, أو فقرات في مقالات, يؤكد فيها أن الأشكال الغربية في الابداع لا يمكن أن تحمل أو تعبر إلا عن روح الغرب ومضامينه. ولن يستطيع مسرحنا أن يقف إلي جوار المسرح العالمي إلا إذا كان لنا مسرحنا النابع من شخصيتنا ورسالتنا. ومع هذا فقد جانب يوسف إدريس الصواب في بعض تصوراته وافتراضاته العلمية التي اتسمت بالتشاؤم, كما نجد, في مسرحية الفرافير في العلاقة الأبدية بين العبد والسيد والتي لم يفرق فيها يوسف ادريس بين الأوضاع الطبيعية الثابتة, والأوضاع الاجتماعية المتغيرة بالإرادة البشرية, ولم يفرق أيضا في الأوضاع الاجتماعية, بين النظم الاشتراكية والنظم الرأسمالية, وإنما رآها واحدة في تشكيل هذه العلاقة التي لا فكاك منها, علاقة التبعية المحتومة بين العبد والسيد, سواء كانت في عالمنا علي الأرض, أو كانت في السماء. وإذا كان لكل مفكر وأديب رؤيته المثالية للمدينة الفاضلة التي يتطلع إليها, فليوسف ادريس أيضا مثل هذه المدينة أو الجمهورية الفاضلة في مسرحيته الكوميدية جمهورية فرحات التي يقيم فيها هذه المدينة علي مبدأ الامانة باعتبارها أم الفضائل الأخلاقية في ضمير الشعب المصري. ولا يفوت الناقد أن يذكر عن هذه المسرحية أن من عبر عن هذا الحلم ليس المثقف الذي يعيش في الأبراج العاجية, بين الأوراق والكتب, وإنما المعبر عنها صول في قسم بوليس, دائم الاحتكاك بالناس الذين تطحنهم الآلام بدرجة تفوق قدرتهم علي تحملها أو تغييرها. وتجدر الإشارة في الوقت نفسه إلي أن مسرح يوسف ادريس لم يخل من التأثر بالمسرح الغربي في أصوله الإنسانية العامة, ومن النقاد من يعتبره أقرب أدبائنا إلي الأدب العالمي, الذين يمكن لأدبهم أن يقرأ في كل اللغات. وهذا مما يحسب ليوسف إدريس لأنه لا يجعله, مع مغالاته لتأصيل الفن في التربة بمنأي عن التراث العالمي الذي تلتقي بعض عناصره مع عناصر الفن الشعبي في بلادنا, وهو ماتسعي إليه كل الثقافات الوطنية, حتي تغتني وتصبح فنونها القومية جزءا من المحيط الإنساني. وعلي الرغم من المكانة الرفيعة التي تبوأها يوسف إدريس في حياتنا الثقافية, فقد كان شديد الارتباط بأجيال الكتاب الجدد, يتابع إنتاجهم في الدوريات الصحفية, وليس فقط في الكتب, ولا يضن عليهم بالمناقشة والكتابة عنهم وإهداء كتبه إليهم وعليها كلمات رقيقة مشجعة يقول فيها: إلي الصديق الفنان الذي أومن بفنه قدر إيماني بالمستقبل. وقد قدم من هؤلاء الكتاب, من أصحاب المواهب الحقيقية في الحكي والتعبير, صنع الله إبراهيم, ويحيي الطاهر عبدالله, وبهاء طاهر. ولأنه كان ضد التقليد, لم يكن يروق له أو يحب للكاتب أن يكون سليل أحد, بما فيهم يوسف إدريس نفسه. وتؤلف المقالات التي كتبت عن يوسف ادريس منذ صدور مجموعته القصصية الأولي أرخص ليالي في1954, حتي رحيله في الثالث من أغسطس1991, وإلي اليوم, عدة مجلدات, لم يظفر بمثلها غير عدد ضئيل جدا من الكتاب, مثل: طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ. نبيل فرج