تتشابه حياتا الرسام الأشهر فان جوخ والروائي الفذ فرانز كافكا اللتان عاشاها قهرا وكمدا وبؤسا وحزنا عميقا, كما تتشابه نهايتهما التراجيدية, وكذلك المجد الأسطوري والنجاح المدوي الذي حققته أعمالهما بعد موتهما. ففي وصيته طلب كافكا أن تحرق أعماله الأدبية غير المنشورة بعد وفاته, ولحسن الحظ فقد أهملت هذه الرغبة, حيث نشرت معظم أعماله عقب رحيله ليتحول معها من مجرد أديب تشكيلي مغمور إلي أب عراب لتيار جارف سمي بالرواية السوداوية أو الكابوسية. ورغم مرور87 عاما علي رحيله الذي حلت ذكراه في3 يونيو الماضي و128 عاما علي ميلاده(3 يوليو1883) فإن العالم لايزال مولعا بكافكا. حيث نشرت صحيفة أندبندنت البريطانية في ابريل الماضي خبر نجاح مكتبات بودليون بجامعة أوكسفورد ومعها أرشيف الأدب الألماني في شراء مجموعة من رسائل كافكا الشهيرة وذلك بعد التفاوض مع عائلته. يأتي ذلك في الوقت الذي تتواصل فيه فعاليات جائزة كافكا الأدبية التي أطلقت عام2001 لتحمل اسم الروائي التشكيلي, حيث أعلن في مايو الماضي عن حصول الروائي الايرلندي جون بانفيل علي جائزة كافكا للأدب لهذا العام, التي يعتبرها عدد من النقاد بمثابة البشري بالفوز بجائزة نوبل للآداب, كما سبق مع هارولد بنتر الذي فاز بنوبل عام5002 عقب فوزه بجائزة كافكا. حياة قصيرة وما بين الأعوام1883 و1924 أمتدت حياة الروائي التشيكي فرانز كافكا القصيرة لواحد وأربعين عاما لم يكن قد نشر خلالها من إنتاجه سوي عدد قليل من قصصه القصيرة, أما بقية إنتاجه الأدبي من روايات وقصص طويلة وكذلك قصصه القصيرة الأخري فقد نشرت تباعا بعد وفاته حيث استغرق نشر مؤلفاته الكاملة نحو05 عاما. ومن أهم أعماله: المحاكمة والقلعة والمسخ والغائب وأمام القانون ومستوطنة العقاب. وقد نشر كافكا أعماله باللغة الألمانية التي يجيدها بطلاقة حيث تخرج في الجامعة الألمانية ببراغ, فلقد رأي في الألمانية لغة أرحب يمكن ان تستوعب أفكاره وروحه الروائية بشكل أدق وأعمق. رائحة الشتات ويعد أدب كافكا مغرقا في الحداثة والعبثية, وتفوح من رواياته وقصصه رائحة الشتات واحساس عميق بالضياع, وهما قد ينبعان من كونه يهوديا. كما يعكسان شعور المجتمع الأوروبي خلال تلك الفترة, حيث كان يحيا وقتا عصيبا قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولي, وقد جاءت مفردات كافكا الروائية والقصصية الحداثية نتاجا لذلك المناخ الفكري شديد الخصوبة في الغرب الذي كان يشهد وقتها نشأة تيارات وروافد فلسفية جديدة وجريئة قلبت ثوابت الفكر الإنساني وفتحت دوائر واسعة من الجدل, كالنظريات الماركسية والعلمانية والدارونية.. وغيرها. والمتأمل لأعمال كافكا يمكن أن يلمس بوضوح شديد أن كافكا كان يشعر بعدم استقرار عميق. فشخصيات أدبه أناس بلا تاريخ يبحثون عن الاستقرار ويحاربون شرا لا يعرفون سببه, بل ان بعض رواياته بلا نهاية أو تنتهي بنهايات عبثية. وقد امتد تأثير كافكا علي الحياة الأدبية بعد وفاته إلي درجة تحول معها إلي رمز حيث أضحي مصطلح كافكوي نظيرا ومعادلا لوصف الأحساس بالضياع والشتات في ظل مناخ سوداوي وظروف عبثية لا مثيل لها. شخصيات كافكا والابحار في شخصيات كافكا وعالمه الفريد يقودنا إلي شخصيات تجد نفسها فجأة خاضعة لقوي لا يمكن التحكم بها, كما أنها تعكس القلق الإنساني والخوف من الحياة والاغتراب والتشرد والنفي ففي روايته المحاكمة نجد ابنا يخبر والده عن خطوبته فيطلب منه الأب أن يقتل نفسه فيلبي الابن رغبة أبيه بكل طاعة ويموت, أما في قصته القصيرة أمام القانون فيتجلي عجز الإنسان حتي الانسحاق في مواجهة القدر, حيث يفاجئنا كافكا بحارس عملاق يقف أمام باب مغلق وراءه باب مغلق ومن ورائه باب.. الخ. ويقف بطل القصة أمامه لا حول له ولا قدره علي ولوجه, ويمضي عمره كله حاملا معه شوقه المسيطر عليه, فينحدر به حتي التوسل إلي أتفه الكائنات كي تساعده علي تغيير قدره الذي لا يتغير أبدا. .. ويبقي السؤال.. لماذا يظل العالم مولعا بأدب كافكا حتي الآن؟.. وهو سؤال تبدو إجابته فيما يثيره عالم كافكا الأدبي من تماس مع إنسان هذا العصر, فعالم كافكا يشكو من صقيع الوجود.. من الحزن.. عالم يواجه الخطر أبدا, خطر أن يفترسه العدم وخطر ان يمتصه الفراغ المرعب. إنه سجن يفتح علي سجن ورواق يسلمك إلي رواق ولاشيء يفضي بك إلي مكان.. عالم لا نهائي من التساؤلات نجده مختزلا في هذا المثل الرائع الذي لا يمكن أن تجود به عبقرية سوي عبقرية فرانز كافكا.