.. والبحر مستدعى اليونان !! الدولة المثالية.. مطلب يبدو ملحاً فى العقل الجمعى المصرى بعد ثورة 25 يناير إن لم يكن هو المطلب الأساسى العميق الذى قامت من أجله الثورة بغية بلوغ شطآن «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، فأبحرت سفينتنا على هدى هذا الهدف أملاً فى أن تبلغه،وتحملنا جميعاً وليس جماعة منا تبعات هذا الإبحار ،ملؤنا منتهى الأمل فى الوصول؛ إذ لم يعد هناك بد أمامنا سوى الوصول من بعد أن أبحرنا جميعا!! يقرع بعضنا الطبول وينخرط البعض الآخر فى التهليل!! وعلى ظهر السفينة، والموج يتلاطمها، والأفق قد خلا من علامة بعينها دالة على اقتراب موعد الوصول، يقف المرء فى مهب الريح القادمة من عين المجهول، تتلاطم عقله الأفكار مثلما تتلاطم السفينة من الخارج الأمواج ،ومن الداخل عقول البشر، فتتناثر فى أركان عقله الأوراق وقصاصات تحمل شظايا معلومات لا يملك فى هذه اللحظة سواها، يهرول صوبها ،يلملم أشلاءها، يستجمع بقاياها، ساعياً إلى أن يستجمع من مجموعها معنى أو ربما مقياساً قادراً حين تطبيقه على أن يقيم الأحداث بالقياس إلى أصل معانيها هذا إذا كان للمعانى أصل أساساً!! وإذا كان البحر عموماً مستنفر للخيال، فإن البحر فى عقل المصريين مستدعى اليونان ولا أعلم لذلك سبباً واضحاً، ربما كانت جغرافيا المكان هى السبب، وربما كان التاريخ هو السبب، ولكن يظل ارتباط البحر باليونان عند المصريين شرطياً فى النهاية!! وحينما يدل البحر على اليونان، وتكون بوصلتنا هى الدولة المثالية، فلا محيص حينئذ من أن يفرض أفلاطون اليونانى نفسه على مائدة الحوار الدائر بينك وبين نفسك الباحثة اللاهثة!! وأجوب بخيالى أروقة اليونان القديم بمدنه شديدة الاستقلال التى لم تندمج أبداً فى دولة موحدة إلا فى القرن الرابع قبل الميلاد فى أعقاب الغزو المقدونى، وأنظر إلى آلهة هذه المدن من عل وهى المنغمسة فى الملذات ما بين طعام وشراب وخمر ولذة وقتال وتعاليم لم تدع يوماً إلى التقوى وإنما إلى الحفلات الصاخبة والتحلل من الوقار بالخمر الذى جعلوا له إلهاً!! فأفهم حينئذ لماذا لم ترث الإنسانية ديانة عن اليونان، وإنما رصيد هائل من الفلسفة!! وألمح السوفسطائيين وقد أمسكوا بمقاليد الحكم هناك، وأحضر مناقشاتهم بخيالى وقد راح جدلهم يترنح ما بين صراع الطبيعة والعرف؛ وكيف كانت الطبيعة عندهم تدعو إلى الملذات بما فيها لذة الاعتداء على الغير وكان العرف يقاومها!! وعلى مبعدة، أرى شباب أثينا يلتفون حول سقراط أستاذ أفلاطون يدعوهم إلى الأخلاق والعدالة والاعتدال والابتعاد عن «لعب السوفسطائيين بالمعانى» يغررون ب«شباب أثينا» ويلوون المعانى فى رءوسهم!! ويعلمهم أن الإنسان إنما يتوصل إلى المعرفة اليقينية بالتدقيق وحسن تحديد المعانى دون «تسرع» فى الأحكام و إلا سقط الإنسان فى براثن الظن وإن بعض الظن إثم؛ وإن المفاضلة بين الناس تكون على قدر إخلاصهم للحقيقة... ما أغضب السوفسطائيين ومن بعدهم (الديمقراطيين) أنفسهم (فأعدموه) سقراط متهمينه بإثارة الشباب ضد الديمقراطية، ذلك أنهم ساووا بين الناس ولم يشترطوا فى المفاضلة بينهم أى نوع من أنواع المعرفة فهان عليهم سقراط ذاته!! واترك جسد سقراط المسجى، وأعود بخيالى مسرعاً نحو البحر ومنه إلى سفينتنا فألمح فى أثناء ذلك تلميذه أفلاطون صاحب نظرية الدولة المثلى فأسمع كلماته تدوى فى أذناى بأن الدولة المثلى هى تلك الدولة التى يقدم فيها كل فرد أقصى ما يستطيع للجماعة؛ وأن الديمقراطية فى نظره هى التى يهتم فيها الفرد بأن يكون نافعاً للدولة وليست تلك التى يكون انصباب اهتمام الناس فيها على كيفية أن تكون الدولة هى النافعة للفرد!! ما تعارض مع ديمقراطية اليونان القديمة بل والديمقراطيات الحديثة نفسها!! وأسمع أفلاطون وهو يصيح فى الناس بأن العمل (بآراء العامة) هو كالعمل بمشورة (الجاهل)؛ وكيف رأى أن علاقة الحاكم بالمحكوم بمثابة الطبيب بالنسبة للمريض، فكيف يتأتى للطبيب أن يستمع إلى مشورة مرضاه؟ واسمعه وهو ينادى بأن رأس الدولة يجب أن يكون هو ذلك المتمتع بأعظم المواهب العقلية؛ وأن سبيل الحاكم فى ذلك هو البحث الدقيق النزيه وليس الانقياد للأهواء!! واسمعه وهو يعلم الناس أن النفس أنواع ثلاثة: نفس شهوانية، ومستقرها البطن تبحث عن الطعام والشراب بنهم، وتلك هى نفسية العوام؛ ونفس حماسية، ومستقرها القلب،تذود عن الحق وتناصره، وتلك هى نفسية العسكر والجنود؛ونفس عاقلة، ومستقرها الرأس تبحث عن الحق والعدل والحكمة، وتلك هى نفسية (الحكام)!! ثم اسمعه وهو ينادى بفضائل دولته المثالية فيرى أن فضيلة العوام هى أن يلتزموا العفة ومقاومة (الطمع)، وإلا صاروا عبيداً لشهواتهم؛ وأن فضيلة الجند هى فى الابتعاد عن شيئين رأى أفلاطون فيهما انتقاصاً شديداً من شرف الجندية ألا وهما: الجبن أو التهور!! وهما كفتى ميزان لو يعلم الناس عظيم؛ وأن فضيلة الحكام هى إعمال الحق وتقصى المعرفة استناداً على (العقل الحر)!! وكم كان أفلاطون حكيماً وهو يحذر من مغبة مشاركة العوام فى الحكم ،وجنوح الحكام إلى جمع المال!! فتحت عينى الناظرة صوب الأفق فى مهب الريح على متن السفينة المبحرة.. وترحمت على أفلاطون!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم