لم يكن هدم مئات البيوت وتشريد أضعاف عددها من الأهالي في سيناءوأسوان هما كل خسائر السيول الجارفة في يناير الماضي, فهناك مانسيه الجميع بدون إدراك لخطورته, خاصة في انهيار البيوت الطينية بأسوان. وهو الطابع التراثي لتلك البيوت, الذي يمثل الهوية الثقافية المتأصلة منذ قديم الزمان, والممتدة بجذورها إلي قري النوبة التي أغرقتها مياه بحيرة السد العالي في الستينيات ولم يبق منها غير قري معدودة متناثرة علي الشاطئ الغربي للنيل بعيدا عن البحيرة, حيث بقيت معزولة وحامية لأسرارها وكنوزها المعمارية والجمالية العتيقة, فوق حمايتها لسكانها البسطاء من لهيب الحرارة المتقدة, وتحقيقها للترابط الاجتماعي بين أسرهم, ولم تكن البيوت التي اكتسحتها السيول أخيرا إلا خط الدفاع الأمامي عما تبقي من هذا التراث في ذاكرة الأجيال الجديدة, التي لم تعاصر أيام مجده القديمة قبل الستينيات. إن ماغفلت عنه نظرة المجتمع وجهات الادارة والتخطيط وأقلام المعلقين عند معالجة آثار السيول, هو أن البيوت ليست مجرد أماكن إيواء للناس, ولا حتي أماكن يشعرون فيها بالطمأنينة والاستقرار وتوفر الحاجات الإنسانية, إنها فوق هذا كله تعبير عن التوافق والتكامل بين الانسان وبيئته, وإنها كذلك حاضنة لتاريخه وذكرياته وثقافته, وفوق هذا وذاك هي رباط للأسرة الممتدة لعدة أجيال تحتويها الجدران وتقوي الوشائج بينها وبين جيرانها في النجع أو القرية بما يجعلهم روحا واحدة ويدا واحدة في مواجهة الخطوب, وقد تجلي أمامنا ذلك بوضوح خلال محنة السيول, حين استضافت البيوت التي نجحت من الغرق أصحاب البيوت المنكوبة, بالرغم من أن الأسر الناجية تعيش بالكاد بما يسد احتياجاتها وبما تحتمله أماكن معيشتها.. لكنها ثقافة المودة والرحمة والتكافل الانساني التي وفرها نمط الحياة والعادات والتقاليد ورسختها الثقافة المتوارثة التي احتضنتها بيوت الطين وغذتها جيلا بعد جيل. لقد كان الرئيس مبارك أكثر إحساسا بالمنكوبين من الجهات الإدارية حين قرر رفع قيمة التعويض المالي لكل أسرة انهار منزلها الي25000 جنيه كي تقوم ببنائه بمعرفتها, وكان المبلغ كافيا لإتمام البناء بنفس الخامات البيئية وبنفس فلسفة العمارة التقليدية بعد اتخاذ الضمانات الكفيلة بعدم تعرضها لأية مخاطر مستقبلا, وعلي رأسها بالطبع أن تكون بعيدة عن مخرات السيول, ويذكر أن تلك الفلسفة هي التي حفظت لهذا المجتمع أمنه واستقراره عبر مئات السنين, كما حققت لأبنائه الشروط الضرورية لمعيشة الأسرة ذات الأجيال الممتدة بداخل البيت الواحد, بما يتطلبه ذلك من وجود فناء خارجي مكشوف يسمح بإقامة ليالي السمر صيفا فوق المصاطب الداخلية والخارجية أمام المنزل, وبفناء خلفي يضم مخازن الغلال وحظائر المواشي والطيور, علما بأن مساحات الأرض علي سفوح الجبل بعيدا عن مخرات السيول لن تزيد كثيرا نفقات إقامة المنزل, فضلا عن أن خامات البيئة اللازمة للبناء متوافرة ورخيصة وآمنة, خاصة أن الأحجار ستقطع من نفس الجبل, أما الطين فسيؤخذ من شاطئ النيل, وأن الأيدي العاملة ستكون من أبناء المنطقة, ومن خلال هذا كله سيتم البناء بنفس التصميم القديم الذي استطاع أن يتحدي ظواهر الطبيعة عبر الزمن, بما في ذلك امتصاص سياط الشمس صيفا بأسلوب البناء بالقباب والأقبية, مضفيا عليها طابعا جماليا متميزا.. وتلك بكل بساطة هي الأعمدة التي قامت عليها نظرية فيلسوف العمارة الرائد حسن فتحي وهي:1 عمارة الفقراء للفقراء. 2 عمارة التوافق بين الإنسان والبيئة 3 عمارة البناء بخامات البيئة وبالمشاركة المجتمعية. 4 عمارة التواصل الثقافي الممتد عبر الأجيال بشكل جمالي متميز. لم يكن أبناء أسوان المنكوبون يبتغون أكثر من هذا, ومن ثم كانت سعادتهم غامرة بقرار الرئيس مبارك حين رفع قيمة التعويض للبناء من15 إلي25 ألف جنيه لكل بيت تهدم, لكنها فرحة ماتمت!.. فسرعان ماالتفت البيروقراطية علي المشروع, وقررت أن تقوم الدولة بالبناء نيابة عن الأهالي تحت زعم خفض النفقات وضمان الجودة.. ومع ذلك قال الناس: لابأس وشكرا للدولة!.. لكنهم فوجئوا بأن المشروع سيسند إلي شركات للمقاولات تقوم بالبناء بالخامات الحديثة, أي بالأسمنت وحديد التسليح, ويقوم التصميم علي أساس الوحدات والشقق النمطية المعتادة في التجمعات السكنية في أي مكان.. وبهذا قفزت تكلفة الشقة الواحدة إلي80000 ج وفقا لما أعلنه المسئولون, وليس العكس بتخفيض التكلفة كما زعموا في البداية, لكن الاخطر من ذلك هو التضحية بالنظام البيئي للمنطقة,ناهيك عن التضحية بقيمة المشاركة الشعبية من أبناء المنطقة في بناء بيوتهم, وهي الكفيلة بتحقيق الانتماء اليها وبث مشاعرهم الانسانية فيما يشيدونه, حتي يتغذي الحجر بأنفاس البشر, وليس بالحديد والاسمنت والرمل!.. وهذا هو المعني الذي تترجمه الواجهات الخارجية الرائعة للبيوت القديمة وهي تشرق بالرسوم الجميلة بأيدي سكان كل بين, وتكشف عن عبقريات إبداعية تحير الألباب!.. إن البيروقراطية المصرية, وهي تقتل هذا الحلم, لم تتعلم درس النوبة القديمة حين أقامت لأهالي قراها المهجرة بعد أن غرقت بيوتها تحت مياه بحيرة السد العالي في الستينيات, بيوتا بديلة ضيقة من الاسمنت والحديد في كوم امبو بنفس الطريقة, وبدون مراعاة للعوامل الجغرافية والمناخية والاجتماعية والثقافية لسكانها, فتحولت الي زنازين طاردة, فلم يشعروا بالرغم من مرور عشرات السنين وتتالي الاجيال بأي رابطة انتماء بينهم وبينها. لكن ما يؤلم النفس أكثر هو صمت المثقفين, خاصة حماة المأثورات الشعبية أمام هذه الكارثة.. علي الرغم من ان الجزء الثالث من موسوعة الحرف التقليدية الصادر عن جمعية أصالة كان مخصصا للعمارة الشعبية. وقد دق ناقوس الخطر بشدة محذرا مما يتعرض له التراث المعماري في مصر من تدمير بفعل الزمن والانسان أيضا.. بقوله: إننا نسابق الزمن للحاق بما يتبقي من ملامح وآثار العمارة الشعبية التي تتلاشي وتندثر بمعدل متسارع بعد أن أصبح أغلبها مهجورا وبات أطلالا تنعي من بناها, أما المنازل التي استطاعت الصمود أمام عوادي الطبيعة فإن أيدي بعض أصحابها تجهز عليها لتقيم بدلا منها تلك الانماط الهجين من المكعبات الخرسانية بلا ذوق أو جذور وبلا هوية ترتبط بحضارة هذا الشعب الذي أهدي البشرية أقدم البنائين في التاريخ, يحدث هذا في ظل تجاهل تام من مختلف الجهات المعنية, وفي غياب التوثيق العلمي الذي يمكن أن يحتفظ لنا بذاكرة المكان والاصالة, وهي الذاكرة التي تستحقها هذه الانماط المعمارية البديعة المشيدة بأيدي بسطاء الشعب, بديلة عن المتاحف المفتوحة والمحميات الثقافية التي كان ينبغي أن تقام في كل منطقة تملك ملامح من هذا التراث. واليوم أصبحنا نري أيدي الدولة متمثلة في بعض أجهزتها البيروقراطية وهي تستبدل بالعمارة التراثية عمارة المكعبات الخرسانية.. بمن تستغيث الضحية؟.