هذا تقرير عن حال أمتنا والخطر الذي يواجهها, وليس فقط عن التنمية الثقافية في بلاد هذه الأمة. فالمعيار الرئيسي لتقدم الأمم علي كل صعيد, بما في ذلك التنمية الثقافية فيها, هو مستوي المعرفة والقدرة علي الارتقاء بهذا المستوي. وقد أثبت القائمون علي إعداد التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية في مؤسسة الفكر العربي, وخصوصا من بلوروا مفهومه وحددوا منهجيته, أنهم واعون تماما بالتغير الهائل الذي يحدث في العالم في ظل الثورة الصناعية الثالثة.. ثورة المعرفة والمعلومات والاتصالات. فقد أصبح حصر الثقافة في آداب وفنون مؤشرا علي عدم إدراك ما حدث في عالمنا وما أحدثته فيه هذه الثورة. ولا يعني ذلك أن أهمية الآداب والفنون تراجعت. فمازال لها أهميتها القصوي في التعبير عن ثقافات الأمم, وسيظل الابداع فيها هو المظهر الأكثر بروزا للتنوع الثقافي في عالمنا. ولكن ما حدث هو أن الابداع الأدبي والفني صار جزءا صغيرا في منظومة المعرفة التي تعتمد علي روافع جديدة مرتبطة بالثورة الصناعية الثالثة, وفي مقدمتها المعلوماتية والتعليم والبحث العلمي. وبالرغم من أن التقرير الصادر عن مؤسسة الفكر العربي يتناول المعلوماتية والتعليم من زاوية التنمية الثقافية, فهو يعتبر رائدا في استشراف دور المعلوماتية في هذه التنمية, بالتركيز علي التمازج الحاصل بين الثقافة وتقنية المعلومات. وربما لا يكون هذا التمازج هو البعد الأكثر أهمية بالنسبة إلي دور المعلوماتية, خصوصا في البلاد والأمم التي تشتد حاجتها إلي ثورة معرفية لتعويض بعض ما فاتها, وتجسير الفجوة المتزايدة التي تفصلها عن غيرها. ومع ذلك, فهذا تقرير سنوي لابد أن يركز في كل عام علي جوانب أكثر من غيرها. والمهم هو أن تحقق أعداده المتوالية التراكم الذي يتيح الإلمام بحال أمتنا معرفيا ويقدم إضاءات قد تفيد في إنارة طريقها المعتم. وهناك ما يؤكد أن التقرير واعد في هذا المجال, إذ بدأ عدده الأول وصفيا ومعنيا بالرصد والتشخيص أكثر من التحليل والنقد والتنظير. وهذا ضروري في واقع عربي تقل فيه المعلومات الدقيقة وتندر الأرقام والاحصاءات الموثقة وغير المتضاربة. وبالرغم من أن هذه الضرورة ظلت قائمة في التقرير الثاني, وستبقي مهمة في التقارير التالية, فقد تضمن هذا التقرير شيئا من التحليل والنقد, كما تطرق إلي استشراف المستقبل في بعض المجالات. ولكن بعض ما طرحه يحتاج إلي نقاش موضوعي, مثل إلقاء مسئولية تطوير التقنية المعلوماتية علي عاتق الدولة, والاعتقاد في أنه لا يمكن الحديث عن توظيف هذه التقنية في جهود التنمية ما لم يكن تطويرها مدرجا ضمن اهتمامات الدولة وأولوياتها. وقد لا يكون هناك خلاف واسع علي أهمية دور الدولة في هذا المجال, خصوصا في إرساء البنية الأساسية للتقنية المعلوماتية, بصفة خاصة علي صعيد الاتصالات. ولكن الخلاف قد لا يكون محدودا علي مسئولية القطاع الخاص العربي الذي لم ينجح في شيء بمقدار نجاحه في صرف الانتباه عن واجباته التي لم ينهض بها. وربما ما كان القائمون علي التقرير العربي للتنمية الثقافية يغفلون دور القطاع الخاص في هذا المجال إلا لأن خيبة الأمل التي ولدها أداء معظم شركاته خلقت انطباعا بأن الاعتماد عليه ليس واقعيا. ولكن إحدي وظائف الأعمال الجادة ذات الصدقية, مثل التقرير الذي نحن بصدده, هي التنبيه إلي مواطن الخلل الأكثر تأثيرا في الحال غير المرضية لأمة تملك من القدرات والامكانات ما يؤهلها لأن تكون في غير هذه الحال. وهذا هو ما فعله التقرير في تناوله حال التعليم العربي الذي يعاني تدهورا واضحا في معظم مناحيه, وأوضاع البحث العلمي الذي يرزح تحت تخلف مهين. ومن أهم ما يقدمه هذا التقرير التنبيه إلي مغبة غياب الوقفيات الجامعية التي ساهمت في تحقيق تقدم كبير في التعليم في دول متقدمة وأخري نامية. وتبدو مصر من أكثر البلاد العربية حاجة إلي استلهام هذا الأسلوب, الذي يقوم علي تخصيص وقفيات للإنفاق من عوائدها علي إنشاء جامعات أهلية, بعد أن ظهرت حدود تجربة الجامعات الخاصة التجارية التي يهدف معظمها إلي تنمية ثروات أصحابها وليس إلي تحسين التعليم أو تنمية مقومات المعرفة في المجتمع. ويقدم التقرير عرضا لبعض النماذج الملهمة في الوقفيات الجامعية من الولاياتالمتحدة حيث تجربة جامعة هارفارد العملاقة واستراليا حيث جامعة سيدني, إلي تركيا التي قدمت نموذجا رائعا في هذا المجال. ويعتبر القسم الخاص بالتعليم في هذا التقرير إضافة نوعية إلي معرفتنا بأزمة كبري يعرفها الجميع جيدا لأنها مشكلة كل بيت تقريبا في بلادنا العربية جميعها وإن بدرجات متفاوتة في العمق والمدي. غير أنه بالرغم من هذا التفاوت لا نجد فرقا يذكر في المنتج المعرفي للتعليم أي نوعية المتخرجين منه, إلا علي سبيل الاستثناء ولأسباب تتعلق بقدرة الأسرة علي تعويض الخلل في أداء المدرسة والجامعة, أو بتكوين الطالب نفسه واستعداده. وبديهي أنه يستحيل التطلع إلي تنمية ثقافية تضع الأساس لبناء مجتمع معرفي في ظل تعليم ليس له من اسمه نصيب يذكر, ولا يسهم في إنتاج المعرفة, ولا حتي في الارتقاء بالإبداع الأدبي والفني الآخذ في التراجع في معظم مجالاته, وليس فقط في السينما والمسرح. فقد أصاب التقرير في رصده التدهور الحاصل في الابداع السينمائي والمسرحي والأعمال الدرامية بوجه عام. ولكنه لم يكن علي حق في تفاؤله بالابداع الأدبي والتجارب الجديدة التي اعتبرها روائية, بالرغم من أن الكثير منها لا يصح اعتباره رواية بالمعني الدقيق. فهذه تجارب سردية يبدو الكثير منها قريبا من الكتابة الصحفية وبعيدا عن الكتابة الأدبية الروائية. وهي لا تختلف كثيرا في طابعها, وربما أيضا دلالتها, عن الأعمال السينمائية والدرامية التي تحفظ التقرير عليها. وليس هناك ما يدل علي أنها تعبر عن تمرد علي المنظومات الفكرية المألوفة, بخلاف ما ذهب إليه التقرير, لأنها تكرس في الواقع هذه المنظومات حين لا ترتفع إلي المستوي اللازم لتجاوزها واستبدال أخري بها. والحق أن التقرير حافل بما يحث علي التفكير والنقاش, اتفاقا مع بعض ما جاء فيه واختلافا مع بعض آخر. وليس النقاط السابقة إلا جزءا صغيرا مما يحفز علي التأمل والحوار في هذا التقرير الثري الذي يسد فراغا في مجاله.