شاعر عبقري يطلق الرصاص علي موهبته! شاعر موهوب, لم يكد يبلغ الحادية والعشرين من عمره, حتي أقلع تماما عن كتابة أي قصيدة جديدة, وابتعد كل البعد عن دنيا الأدب والفن, وكأنه لم يكن ينتمي لهذا العالم السحري الذي يفيض بالرؤي النبيلة والجميلة. هذا ما أقدم عليه الشاعر الفرنسي أرثر رامبو, بينما كان في أوج إبداعه, لقد عقد العزم, مع سبق الإصرار والترصد علي هجرة دنيا القصائد, والأكثر غرابة أنه هجر في الوقت نفسه أوروبا وحضارتها, ورحل إلي إفريقيا, وتنقل بين بلدانها كتاجر غريب الأطوار, فكان تارة يتاجر في السلع, وكان تارة أخري يبيع الأسلحة. وأمضي رامبو في هذه الرحلة الغرائبية في القارة الإفريقية نحو اثني عشر عاما, وانتهي به المطاف عندما ألم به مرض عضال. واضطر إلي الرحيل إلي مرسيليا حيث لفظ أنفاسه الأخيرة وحيدا, فوق سرير بأحد مستشفياتها عام1981, ولم يكن قد تجاوز السابعة والثلاثين من عمره. غير أن رامبو ظل حاضرا في المشهد الثقافي الأوروبي, برغم أن سنوات إبداعه الأدبي كانت جد قصيرة, فقد بدأ توهجه الشعري عندما كان في السادسة عشرة من عمره, ثم قرر إطلاق الرصاص علي موهبته عندما بلغ الحادية والعشرين, غير أن ما أبدعه في خلال تلك السنوات كان رائعا. ومن ثم ظل محل اهتمام النقاد والقراء بسبب موهبته الاستثنائية وسيرة حياته العاصفة التي اتسمت بالجنوح للمغامرة. وهذا ما يكشف عنه الكاتب جون أشبيري الذي ترجم أخيرا كتاب رامبو المهم إشراقات الذي يضم نحو ثلاث وأربعين قصيدة, كما كتب مقدمة ضافية وعميقة سبر فيها غور عبقرية رامبو وأطوار حياته العاصفة, ويشير إلي أنه صار متيما بقصائد الشاعر منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره. وكان رامبو قد ولد عام4581 في مدينة شارل فيل الفرنسية المتاخمة للحدود البلجيكية, وكانت أمه سيدة نقية وتقية, أما والده فكان جنديا في الجيش الفرنسي, وعندما بلغ رامبو السادسة من عمره, اختفي الأب تماما من أفق حياته, فتولت أمه تربيته وإعالته, وكابدا معا شظف العيش. وبرغم هذه الظروف الصعبة, كان رامبو متفوقا في دراسته, ووقع منذ حداثة سنه في هوي قصائد الشعراء, والمثير للدهشة أنه كتب قصائده الأولي باللغتين اللاتينية واليونانية. وكان طموحه شديدا, وأشواقه الأدبية لا حدود لها, فعندما بلغ السادسة عشرة من عمره, أفصح بجلاء عن اعتزامه إبداع عالم شعري جديد, كل الجدة, ولم يكد يمر عام حتي بدأ رحلته الناجحة الكبري من مدينته إلي باريس, ملبيا دعوة الشاعر الفرنسي الكبير بول فيرلين. علاقة عاصفة وكان رامبو قد هام عشقا بقصائد فيرلين, وأرسل إليه بعضا من قصائده راجيا تفضله بتقويمها, ولفتت القصائد انتباه الشاعر الكبير, وأيقن أن مبدعها يعبر عن صوت أدبي جديد, ومن ثم دعاه لزيارته, وفطن رامبو إلي أن هذه الدعوة تمثل بداية انطلاقة نحو دنيا الشعر الجميل. ذلك أن بول فيرلين كان يمثل موهبة متميزة وفريدة وكان يتحلق من حوله مجموعة من الشعراء الجدد, ويؤكد برتين راسكو في كتابه المهم عمالقة الأدب أن فيرلين أبدع أروع قصائد جيله وأكثرها عذوبة. يوضح راسكو أن العلاقة التي نشأت بين الشاعر الكبير والشاعر الشاب كانت شائكة وعاصفة, ذلك أن رامبو كان مشاكسا بطبعه, ومن ثم كدر صفو الحياة العائلية لبول فيرلين عندما أقام معه في منزله, فقد اشتبك في مشاحنات مع زوجة الشاعر الكبير وأمها, مما اضطرهما إلي طرده من المنزل. ولذلك اتفق الشاعران علي القيام برحلة إلي لندن, واستقر بهما المقام في ربوعها لفترة من الوقت, ثم عن لهما مغادرة لندن إلي بروكسل عاصمة بلجيكا, وهناك تفاقمت خلافاتهما, وأطلق الشاعر الكبير, في لحظة غضب, الرصاص علي رامبو فأصابه في معصمه. وربما كان هذا الحادث المروع هو ما أفضي إلي نهاية العلاقة بين الشاعرين, وكذا تغير مسار رامبو ومصيره, عندما قرر هجرة دنيا الشعر, وكأنه يصدر حكما صارما بالإعدام علي موهبته. ويشير الكاتب والمترجم لكتاب إشراقات إلي أن آخر ما أبدعه رامبو كان ديوانه موسم في الجحيم وهو ديوان يعبر عن أوج موهبته. موسم في الجحيم ويحلو لمعظم مؤرخي الأدب الإشارة إلي أن والدة الشاعر سألته عما يقصده بموسم في الجحيم, فكانت إجابته.. لقد قصدت أن أقول ما أقوله, أدبيا, وبكل المعاني, وهي إجابة جد غامضة, ومن المتصور أن والدته لم تفهم ما قاله, وبرغم هذا الغموض فإن النقاد حاولوا أن يتفهموا جوهر قصائده التي تتناول قضايا بالغة الأهمية منها البراءة والذنب, وتشوه الحس وتشوه الروح. وثمة رواية يسردها نفر من الباحثين والمؤرخين وهي أن رامبو نشر موسم في الجحيم علي حسابه في بروكسل, لكنه نسي أن يسدد تكلفة نشر الديوان, ومن ثم فإن الناشر تعمد عدم توزيع نسخ الديوان,, ولم يتم الكشف عن النسخ إلا بعد نحو عشر سنوات من موت رامبو, ولم يظهر الديوان في الأسواق إلا عام4191, وكان الظن أن رامبو مزق قصائد ديوانه. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي