ينشغل الكثيرون داخل قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات حاليا باسم وشخصية وسمات وتوجهات الوزير الذي سيتولي مسئولية القطاع في الحكومة المنتخبة المقبلة. والبعض يطرح أسماء والبعض الآخر لا يخفي عجزه عن الوصول لإجابة حاسمة, فيما يردد فريق ثالث عبارات إنشائية عن مهام المرحلة وضروراتها وأهدافها, وتقديري أن هذه مناقشة خطأ في توقيت خطأ بطريقة خطأ, لأن القطاع أحجم خلال الشهور التالية للثورة ولا يزال يحجم عن أن يكون داخل الملاعب التي تجري بداخلها عملية صنع القرارات المصيرية الكبري بالبلاد, والتي ستؤثر بل وستصوغ شكل القطاع ومستقبله ككل ضمن عملية التحول الشاملة التي نمر بها, وستحسم أمورا عديدة لعل من أبسطها قضية اختيار الوزير, ومن هنا فإن مناقشة مسألة شخص الوزير المقبل علي هذا النحو لا معني لها, لأن من اختار أن يكون خارج الملعب, لا يحق له طلب المشاركة في تسجيل الأهداف.. كيف؟ في خضم عملية التحول الجارية بالبلاد هناك أربعة ملاعب أساسية يجري فيها ترتيب أوضاع الدولة, واختار قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات أن يكون خارجها ولا يشارك فيها بالصورة الواجبة, الملعب الأول هو الجدل الفكري السياسي الجاري حول توجهات الدولة مستقبلا في الحكم والسياسة والاقتصاد والخدمات, والدور المفترض لكل قطاع من قطاعاتها, وفي هذا الصدد هناك مثلا أصوات أصحابها ينادون بإطلاق الزراعة والتصنيع, ويرون أنهما قطاعان أهملا خلال العقود الماضية, ويتعين رفعهما إلي مصاف أعلي في أجندة اهتمامات الدولة الجديدة, علي حساب قطاعات الخدمات ومنها قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, والتي يرون أنها وضعت علي حجر الدولة والحكومة, وهو جدل أو لغط بغض النظر عن صحته والاختلاف والاتفاق معه يفتح المجال للحديث عن مكانة وأهمية ودور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات داخل أجندة الدولة الجديدة. هنا كان لابد للقطاع برموزه وشركاته ومسئوليه, وعلي رأسهم الوزير ومساعديه بلورة رؤية سريعة واضحة حول مكانة ودور ووظيفة القطاع داخل أجندة الدولة واهتماماتها في المرحلة المقبلة, وتحت ظلال هذه الرؤية يمارسون نوعا من الضغط الحميد علي المجتمع الواسع والمجتمع السياسي والفكري والثقافي الذي يغلي بالتغيير ويعيش حالة تحول وسيولة, بحيث يصبح القطاع جزءا من عملية الجدل والتغيير الجارية في أولويات الدولة وتوجهاتها واهتماماتها, لكن هذا لم يحدث خلال الأشهر التالية للثورة, ولا يوجد مؤشر علي حدوثه خلال الفترة الحرجة المقبلة. وتقديري أن الإحجام والغياب عن هذا الملعب يفوت فرصة مواتية لبناء قناعة لدي الدولة الجديدة بأن هذا القطاع هو ملح الطعام لدي أي حكومة, أي القطاع الذي تحتاجه كل القطاعات الأخري ليبث فيها الحيوية والشفافية والنزاهة وحسن استغلال الموارد وكفاءة الأداء بما يملكه من أدوات وتكنولوجيات ونظم وخبرات وما يجلبه من استثمارات ويتيحه من فرص عمل ذات قيمة مضافة عالية, وإذا ما تشكلت هذه القناعة فسيترتب علي ذلك أن القطاع سيتسيد جزءا من المشهد ويصبح ممثلوه ومسئولوه ضمن مجموعة المطبخ داخل الحكم والنظام, وربما ينفتح المجال ليكون وزيره وزيرا سياديا داخل الحكومة, بغض النظر عن اسمه وشخصيته, لآنه آت من قطاع تبوأ مكانته اللائقة داخل منظومة الحكم والإدارة, ولم يعد قطاعا تجميليا تتزين به الحكومة أمام شعبها وأمام العالم حينا وتخلعه حينا آخر. في هذا السياق نلحظ تغييرا في الصورة, فالأنظار تتحول من التركيز الواضح علي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كما كان الأمر في العقد الماضي, إلي الحديث عن البحث العلمي ككل والذي تمثل فيه التكنولوجيا عنصرا من العناصر, يتجه البعض إلي كتم صوته وخفض بريقه ومحاصرة جاذبيته, والمثال الأبرز هنا هو الأضواء التي سحبت ليعاد تسليطها علي زويل وفريقه داخل مجلس الوزراء وخارجه, لتختلف الصورة عما كانت في عصر نظيف وفريقه من الوزراء المنتمين للقطاع. الملعب الثاني الذي يقف القطاع خارجه هو ملعب إعداد الدستور, فالمدهش والمؤسف في الوقت نفسه أن الوزارة والوزير ومساعديه وتنظيمات المجتمع المدني المعنية بالقطاع ورموزه وشركاته التي يغطي بعضها البلاد بأكملها, لم تتخذ مبادرة واحدة لكي يكون القطاع ممثلا تمثيلا جيدا ومؤسسيا وفاعلا وواضحا في مؤتمر الحوار القومي أو الوفاق القومي, أو أي من الفعاليات واللجان الأخري المعنية بقضية إعداد الدستور, وما حدث مجرد شذرات بسيطة بمساهمات أتت بالمصادفة البحتة, وليس عن جهد مؤسسي قائم علي رؤية شاملة لما ينبغي أن يحتويه الدستور من نصوص ويرسيه من مباديء من وجهة نظر القطاع. وحينما كتبت سلسلة مقالات عن حقوق الإنسان الرقمية التي يتعين علي القطاع النضال من أجل تضمينها في الدستور بنصوص واضحة تصونها, اكتشفت انني الوحيد تقريبا الذي اهتم بهذا الأمر, وحتي المساهمة الشكلية, التي جاءت من جانب وزارة الاتصالات في افتتاح مؤتمر البناء الدستوري للمعلومات في مصر, الذي عقد الشهر الماضي, انساقت وراء الحديث عن مبدأ أو حق واحد فقط هو حق الوصول للمعلومات وتداولها, ولم يقم المشاركون من الوزارة في هذا المؤتمر بمسئوليتهم في تنبيه الحاضرين الذين جاءوا من مختلف قطاعات المجتمع القانونية والاقتصادية والأمنية والتشريعية إلي ضرورة توسيع نطاق الأمر ليصبح جهدا من أجل بناء دستوري للحقوق الرقمية الكاملة للمواطنين وليس حق واحد فقط هو تداول المعلومات. في ملعب إعداد الدستور أري أن قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لا يقوم بواجبه, واختار الجلوس خارج الملعب إما لاهيا أو متفرجا أو متجاهلا, والدليل أنه لا يتحمل مسئوليته التاريخية تجاه ثلاث نقاط تحتاج جهدا ضخما, الأولي: مراجعة القوانين القديمة القائمة لبحث مدي مواءمتها وتوافقها مع حقوق الإنسان الرقمية التي ينادي بها العالم منذ قمة المعلومات في جنيف2003, والثانية مراجعة مجموعة القوانين الجديدة التي صدرت في صدد الحقوق الرقمية للاهتداء بنصوصها في الوصول إلي صياغات دستورية تحصن هذه الحقوق وتدعمها, مثل قانون التوقيع الإلكتروني والملكية الفكرية والاتصالات وغيرها, ثم الضغط من أجل تضمين الدستور مواد تجبر الحكومة المقبلة علي إصدار القوانين التي لم تصدر وتتعلق ببعض الحقوق الرقمية, ومنها قانون حرية تداول المعلومات وقانون أمن المعلومات وحماية الخصوصية وقانون مكافحة جرائم المعلومات, والنقطة الثالثة دراسة القوانين المستحدثة المحتمل صدروها عالميا لمعالجة بقية الحقوق الرقمية وجعل الدستور مهيئا لها وحاميا لما ستأتي به من مباديء, مثل قانون الحق في الخصوصية علي الإنترنت والبريد الدعائي وغيرها. الملعب الثالث الذي يقف القطاع خارجه هو الملعب الحزبي, فالمفترض أن الحكومة المقبلة ستكون حكومة حزبية, أي سيشكلها الحزب أو الكتل النيابية ذات الأغلبية في البرلمان, وليس رئيس الدولة وزوجته وأحد أبنائه كما كان يجري في الماضي, ومن ثم فالوزير المقبل بحكم التطورات الجارية سيكون وزيرا حزبيا سياسيا في المقام الأول, وهنا أرجو أن يدلني أحد علي كوادر قطاع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات المنخرطة في المشهد الحزبي والنشطة سياسيا, والتي يمكن للأحزاب المرشحة للفوز أن تختار من بينها وزيرا ينفذ سياساتها في هذا القطاع. إذا نظرنا سنجد استثناءات نادرة من هنا أو هناك, ولو تصورنا أن تحالفا من الليبراليين قد فاز في الانتخابات بما فيه حزب ساويرس, فالقطاع سيقع بين أصابعه كقطعة الكفتة, ليقلبه حتي يحط بين أحد معاونيه ورجاله, وهذا سيناريو أراه كئيبا وأرفضه من الآن, أما إذا شكل الإسلاميون والوفديون حكومة ائتلافية مثلا, فأرجو أن يضع كل من يعنيه الأمر داخل القطاع نفسه مكان رئيس الوفد أو مرشد الإخوان وهو يختار الوزير الجديد, ويتخيل الشخصية التي يمكن أن تأتي في ظل هذا الغياب لكوادر القطاع عن المشهد الحزبي وجلوسها خارج الملعب. الملعب الرابع هو آليات التحول الديمقراطي وفي القلب منها النظام الانتخابي وأدواته وفي مقدمتها الانتخابات والتصويت, فالجهد الذي بذله القطاع, تحت إشراف الوزارة وهيئة تنمية صناعة المعلومات خلال شهري مارس وأبريل الماضيين في مسألة توظيف التكنولوجيا لخدمة الانتخابات, ساهم ضمن جهود أخري سابقة ولاحقة في الوصول إلي بعض التعديلات التي أدخلت علي قانون مباشرة الحقوق السياسية, وفتحت الطريق نحو دخول القطاع للملعب الانتخابي, لكن المؤسف أن هذا الجهد كان قصير النفس, وما أن صدر القانون حتي مات بالسكتة القلبية, قبل أن يكمل دوره في صياغة مواد اللائحة التنفيذية للقانون, وفي بناء قدرات الأمانة الفنية الدائمة للانتخابات وتأهيل كوادرها, باعتبارها ستكون جهة الاختصاص في تسلم وتهيئة وتشغيل قاعدة بيانات الناخبين وتحديد مواصفات كل نظم المعلومات والبرمجيات والبنية التحتية اللازمة لإجراء الانتخابات, وقد لا يعرف الكثيرون أن هذا التقاعس عن المتابعة كان أحد الأسباب المهمة التي جعلت قاعدة بيانات الناخبين تقع مرة أخري في أيدي إدارة الانتخابات بوزارة الداخلية, مما يعني أن الداخلية ستستمر في هيمنتها علي إدارة وتشغيل وتوظيف بيانات الناخبين, أي أن التعديلات الجيدة التي أدخلت علي قانون مباشرة الحقوق السياسية قد فقدت جدواها عمليا, وهنا أقول إن الوزارة ومسئوليها ومن وراءهم القطاع يتحملون جزءا مهما من مسئولية ما يشهده الملعب الانتخابي الآن من سلبيات, وهو الملعب الذي يفترض أنه الأداة التي ستقودنا إلي برلمان أغلبيته تشكل الحكومة وتختار الوزير المختص. خلاصة الأمر, أن بقاء القطاع خارج هذه الملاعب يجعل الحديث عن هوية وسمات الوزير المقبل عبث ولغو لا طائل من ورائه.