لا أحد يمكنه إنكار دور بن لادن في تغيير العالم علي طريقته, عندما هاجم رجاله الولاياتالمتحدةالأمريكية في11 سبتمبر2001 ودمر في عقر دارها حتي سطح الأرض برجين شهيرين في نيويورك, قتل داخلهما ثلاثة آلاف رجل وامرأة في أكبر عملية إرهابية استقبل بها العالم القرن الحادي والعشرين. عقب هذه الواقعة المأساوية تغير العالم, وأصبح الإرهاب عالميا, كما انقلبت إجراءات الأمان والسلامة في المطارات ووسائل النقل الأخري رأسا علي عقب, وصار من المعتاد أن يخضع المسافر إلي تفتيش دقيق من خلال المرور علي بوابات إلكترونية بالغة الحساسية, وأن يطلب من المسافرين في معظم الأحوال خلع الأحذية والأحزمة, وتفتيش الحقائب اليدوية المصاحبة للراكب داخل الطائرة, وبسبب بن لادن وجماعته تغيرت النظرة إلي أمن الحدود, حيث أعيد تعريفه جغرافيا بدقة بين البلاد وبعضها, وفي المطارات والمواني, واستتبع ذلك تزويدها بكل وسائل الكشف الإلكترونية لمنع أي نوع من الاختراق الضار إلي داخل الوطن. الأهم من ذلك أن بن لادن برغم أنه تعامل مع المخابرات الأمريكية لطرد الروس من أفغانستان قد تحدي الحضارة الغربية إلي درجة العداوة الشاملة, ورفض تعددية العالم, وفكرة الحضارة الإنسانية الواحدة بصرف النظر عن الأديان. ولا شك في أن هناك من الناس من أعجب ببن لادن بسبب كراهيتهم للولايات المتحدةالأمريكية, لكن ما اقترفه من جريمة كبري في حق الإنسانية بتدمير البرجين قد حوله إلي مجرم حرب, وعدو للبشرية, فضلا عن موقف الولاياتالمتحدة غير العادل من القضايا العربية والإسلامية. بن لادن, الرجل المسئول عن موت آلاف من الضحايا, والذي أدخل الرعب إلي ملايين القلوب, قد اختفي فجأة من فوق سطح الأرض منذ أيام, بعد أن اغتالته وبعضا من عائلته مجموعة خاصة من القوات الأمريكية. واختفاء الرجل بعد مقتله في باكستان بإلقاء جثته في البحر كما صرحت الولاياتالمتحدة لن ينهي الحروب التي أشعلها, فما زالت أفكاره تلهم كثيرا من الملايين البسطاء. ووهن المعني والأيديولوجيات من جهة, وضعف الشخص واختفاء القائد من جهة أخري, قد يوجد بعد مقتل بن لادن بعضا من الأمل في السلام, وأن يهدأ عنفوان الإرهاب الجهادي وتقل قدرته علي الانتشار. لا شك في أن مقتل بن لادن بهذه الصورة القاسية يمثل ضربة سيكولوجية عنيفة لتنظيم القاعدة, لكنه لا يوقف أو يقلل من خطابها المستمر إلي الغرب الملحد من وجهة نظرها وسعيها الدائم إلي تحقيق حلم عودة الخلافة الإسلامية. هذه النوعية من التنظيمات الإرهابية لا تختفي بسهولة لكنها تضمحل مع الزمن بسبب ما يجري حولها من تغير في المعاني والأفكار. واختفاء قائد كاريزمي مثل بن لادن سوف يؤثر سلبيا علي إمكان تجنيد أجيال أخري من الشباب بنفس السهولة والزخم مقارنة بما حدث في الماضي. لو عدنا إلي السنوات الأولي من القرن الحادي والعشرين, وعلي المستوي الجماهيري, لوجدنا تمسكا بالشعارات المناوئة للولايات المتحدة والغرب بعكس ما يحدث الآن من تجاهل نسبي لتلك التوجهات القديمة. وما نلحظه الآن في ثورات التحول الجديدة في المنطقة العربية وتجاهلها كل شعارات اليسار المتشدد بما في ذلك صور جيفارا القديمة, ووهن حماسها في الوقت نفسه لصور وشعارات اليمين الديني متمثلا في بن لادن والظواهري وغيرهما من الرموز التي شحب تأثيرها علي الأجيال الجديدة. حركات التغيير الثورية الجديدة لم تعد تهتم بالفرد القائد الملهم بنفس أهمية فكرة العدالة والرخاء والعتق من الفقر والمرض. وما نراه الآن في الثورات العربية الجديدة يتجه إلي هدف مختلف عن أهداف سنوات التسعينيات والسنوات الأولي للعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لقد سقطت رموز تلك الفترة من رؤساء وزعماء, ولحسن الحظ أن البديل لم يكن القاعدة وزعماؤها ولكن إلي توجه آخر قائم علي قيم الديمقراطية والعدالة والتنوع في الأفكار والأهداف. لا شك في أن مقتل بن لادن علي أيدي وحدة أمريكية خاصة يمثل نصرا معنويا كبيرا للولايات المتحدة بعد أكثر من عقد كامل لم تتمكن فيه الولاياتالمتحدة بكل ما لها من إمكانات وحلفاء من إنجاز هذا الهدف في وقت معقول. وبرغم أن القاعدة قد أصبحت ذات طابع عالمي إلا أن نقطة انطلاقها كانت عربية وشرق أوسطية. فخلال السنوات القليلة الماضية تشعبت القاعدة من منظمة أحادية إلي أخري مركبة لها فروع مختلفة أولها قاعدة شبه الجزيرة, وقاعدة المغرب, وقاعدة ما بين النهرين. أما بن لادن, ومن خلال عمله في باكستان, أطلق علي المكان القاعدة المركزية. أيمن الظواهري الرجل الثاني في القاعدة هو المرشح للقيادة علي الأفكار القديمة نفسها المبنية علي حلم إقامة خلافة إسلامية, وعلي أسس الإسلام السلفي الجهادي كما تراه أجيال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. لكن الظواهري ليس بالبديل الوحيد المرشح ليجلس علي مقعد القيادة, فهناك مرشحون آخرون لهذا المنصب في أكثر من بلد عربي واحد. وبالتوازي مع الترشيحات الرئاسية تتردد عناوين عمليات عسكرية هدفها الانتقام لمقتل بن لادن تبدأ من الهجوم علي أفواج السياحة الغربية, وتنتهي بتفعيل بعض الأفكار النووية التي تشير إلي امتلاك القاعدة قنبلة نووية مخبأة في مكان ما في أوروبا. علي الجانب الآخر, تغيرت استراتيجية الحرب ضد الإرهاب لتعتمد علي الأساس علي العمل المخابراتي الدقيق النافذ إلي أبعاد جديدة علي امتداد مسرح معقد للعمليات يختلط فيها المدني والعسكري وتلعب فيها التكنولوجيا الرقمية والنفسية والبيولوجية دورا كبيرا. وبرغم أن قصة اغتيال بن لادن مازالت غامضة, ويشوبها العديد من الثقوب الباعثة علي طرح أسئلة كثيرة وإجابات أوضح, إلا أنها في كل الأحوال تعكس صورة عملياتها لصدام بين أكبر دولة في العالم وبين منظمة ليست معروفة علي وجه التحديد خريطتها المساحية أو البشرية. وفوق كل ذلك هناك تلك القصة الغامضة لدور الحكومة الباكستانية واختضانها لبن لادن برغم إنكارها لذلك; وهل كانت الحكومة الأمريكية علي علم حتي جاء الوقت المناسب لإعلان ذلك من أجل تحقيق فائدة سياسية قد يستغلها أوباما في معركته الانتخابية المقبلة. ولن يصدق أحد عدم علم الحكومة الباكستانية بهذه العملية المعقدة, وما استخدم فيها من طائرات وقوات اقتحام, فضلا عن أن العملية كلها داخل منطقة سكنية ليست بعيدة عن العاصمة الباكستانية. لقد جاء مقتل بن لادن في وقت مازالت فيها الحرب الأفغانية مشتعلة, والعالم العربي يطفو فوق سطح غير ساكن من التغيرات السياسية المفعمة بآمال الديمقراطية والمطالبة بالعدل والحرية والديمقراطية والإصلاح السياسي والاقتصادي; وأن يكون للمرأة دورحتي ولو لبست النقاب كما شاهدنا في بعض المظاهرات الاحتجاجية. صحيح أن ألوانا كثيرة من التيارات الإسلامية قد ظهرت متداخلة مع تيارات ليبرالية, لكن الجميع يعملون علي قلب رجل واحد من أجل بناء أوطان متجانسة مع الفكر العالمي الهادف إلي ضمان حكم القانون وتحقيق المساواة والرخاء للجميع. وبرغم أن أيمن الظواهري في بعض تصريحاته قد أيد الثورات العربية الجديدة إلا أنه وبن لادن لم يفهما دلالة هذه الثورات وأن الإعجاب بالرجلين قد انحسر منذ زمن طويل. المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد