محمد ناجي كاتب عذب ومقل, يرقد علي حافة الخطر اليوم وهو يردد قول الشاعر العربي القديم: ولي كبد مقروحة من يعيرني بها كبدا ليست بذات قروح أباها علي الناس لا يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح. وكأنه يدفع من دمه ضريبة العذاب عن بني وطنه, ممن تقرحت أكبادهم في هذا الزمان, لا من العشق الذي كان يعنيه مجنون ليلي, ولكن من قدر الإهمال والتردي, وقد استطاع محمد ناجي ببضع روايات لا تتجاوز السبع, أنتجها علي مدي قرابة عقدين أن يحتل مكانة غالية وأثيرة في قلوب قرائه, وموقعا بارزا علي خارطة الأدب العربي, وهاهو ينشر أحدث رواياته_ ولا أقول آخرها بإذن الله_ بعنوان' ليلة سفر' ليسجل مفارقة الأجيال المتعاقبة في الحياة المصرية, كما تتمثل في حفيد ينتزع نفسه من حضن جده ليعيش حلمه بالترحال والتحقق, بعد أن اتسعت شقوق المنزل الذي يقطنه إثر الزلزال, وفشل مشروع زواجه من حبيبته لأن الجد في البداية رفض مشاركتهما في الشقة الصغيرة, حتي إذا ما تراجع عن موقفه كان الحفيد قد عدل عن خطة الزواج وآثر السفر لإشباع طموحه. لكن المفارقة الكبري في رواية محمد ناجي تتجسد في تدفق الذكريات والشجون في مسارين متوازيين; أحدهما عند عبد القوي أفندي الجد الذي ترمل مبكرا, وجارته حضرة الناظرة الست كوكب التي ظلت متباعدة عنه علي الرغم من وحدتها وعنوستها, وبمقدار ما كانت تتسع الشقوق في الجدار الفاصل بين شقتيهما مؤذنة بخطر التصدع والانهيار كانت الحياة تدفعهما إلي التقارب الوجودي والتلاحم الإنساني. وعندما يصدر قرار إزالة البيت يشعر عبد القوي أفندي بهشاشة ضعفه, وحفيده نصر يدرك ذلك' فيتعجب من عناد الجد, يشفق عليه, لكنه لا يستطيع تحمل ثرثرته الطويلة, يضجره الكلام المعاد, الطعن في قرار الإزالة مجرد كسب للوقت, ولو فلح في تعطيل القرار فلن يمنع سقوط البيت وانهياره, المسألة واضحة لا يمكن أن يلتبس فهمها علي مدير عام شئون الموظفين بوزارة الصحة سابقا, يعرف لكنه يعاند' عناد الشيوخ وإصرارهم علي سرقة زمن الأبناء والأحفاد, هل يرفع هذا البيت المتصدع الذي يلقي بظله علي الوطن كله, بطائفتيه, إلي مستوي الرمز الشفيف؟ البلبل والوردة: تلعب الست كوكب الناظرة القبطية المتصاعدة دورا عجيبا في الرواية, تقتسم فضاءها مع عبد القوي أفندي بترفع وتباعد طيلة الوقت, تمتلك قدرة مذهلة علي إثارة الشجن بذكريات أعوامها المثقلة بالجدية والتقوي, تتراءي لها أطياف قصص القديسين والحياة المدرسية في نسق واحد' في الكتب المدرسية القديمة حكاية عن بلبل وشجرة ورد, ذبلت الشجرة فرواها البلبل العاشق بدمه, غرس شوكها في قلبه ورفرف بجناحيه, ظل يغرد بصوت أعلي من ألمه وهو يسقيها حتي دبت دماؤه في عروقها وتفتحت وردتها, ظلت الحكاية في الكتب المدرسية طويلا, تقول الست كوكب لنفسها; الآن لم تعد مناسبة, هي أيضا لم تعد قادرة علي تخيل الألم الدافئ, وخز الشوكة ورفرفة الجناحين' تعود إلي كرة الخيط الأحمر الذي شرعت في تحويلها إلي كوفية لزميلها مدرس الرسم القديم, لكنه هجرها ورحل إلي الاسكندرية وضاع في زحامها, تعود لالتقاط خيطها من حين لآخر عندما يتجدد لديها الأمل في صدر حنون تدفئه بها, لكنها تحافظ علي ذكري الشهداء; خاصة الشهيدة' دميانة' التي قتلها عسكر الرومان ومعها أربعون عذراء رفضن الكفر والدنس' كنت أتمني أن أزور ديرها في بلقاس, لها دير كنيسة كبيرة هناك, أما العذاري فلهن في كل بلد مزار يسميه الناس ضريح الأربعين'. عندما تتمتم بذلك لجارها العتيد عبد القوي أفندي لا يجادلها, بل يهمس لنفسه: أن كل الناس يعرفون أن الأربعين هم دراويش مولانا الولي الشاذلي الذين هاجروا معه من تونس إلي مصر, وهكذا يتناسخ القديسون الأقباط والمسلمون في مصر, يتبادلون الادوار والأسماء والأضرحة في توافق عجيب يمتص حب الناس ونسكهم والحفاوة بهم, مما يعطي مكانة معجزة للنسيج الروحي في مصر. ذكريات الجد عبد القوي بدورها لا تكف عن الانهمار, يتذكر ابنه مصطفي الذي عشق فتاة من السويس وتبعها إلي هناك وأتقن أسلوب الحياة فيها وعزف السمسمية, قبل ان يقضي نحبه عند قصف المدينة في العدوان الثلاثي, زاره عبد القوي مرة فاصطحبه إلي مقهاه المفضل, حيث احتفي به المعلم علي طريقته:' مرت شابة قرب الخليج في خطواتها جرأة تدل علي ألفتها للمكان وناسه, أغلق المعلم طريقها بعصاه, وطلب منها رسم المرور: عندنا ضيف عزيز ولازم نحييه برقصة! حياها مصطفي بلحن تحبه, فضحكت ورضخت للطلب هزت وسطها هز صياد يسحب شباكه وغنت مع السمسمية: ويا عازبة ياللي مالكيش جوز بيعي الحلق وهاتيلك جوز يسهر معاك وراء الناموسية ويطعمك بقلاوة ولوز بهذا النغم الشجي والإيقاع الروائي الذي يذكرنا بروح نجيب محفوظ يعقد محمد ناجي شبكة خيوط روايته بكثير من المهارة والعذوبة, وعندما تأتي ليلة الرحيل ويترك الحفيد للجد ورقة صغيرة كتب فيها' أحبك يا جدو' يبكي الجد دون دموع, ولا تسعفه وقد عاد لشقته مبللا ومتهالكا سوي جارته التي تلفه في بطانية دافئة, وتحضر له أخيرا الكوفية التي نسجتها علي مدي عمرها, قائلة له:' لا أعرف لمن كنت أنسجها, هي لك: كنت جنبي طول الوقت, فلماذا لا أفكر فيك؟' شلال من الشجن والمودة واختلاط مشاعر الخطر بالألفة والرحيل بالوداع يجعل من رواية محمد ناجي أنشودة شعرية رائقة للحياة والحب وتجاوز الآلام.