ليس لفظ تشريح من عندي, ولكنه مأخوذ من واحد من أهم الكتب الكلاسيكية حول ظاهرة الثورة, وهو كتاب المؤرخ الأمريكي كرين برنتون( تشريح الثورة) الذي ظهر لأول مرة في عام1938, والذي حلل فيه الثورات الإنجليزية, والأمريكية, والفرنسية, والروسية. في هذا الكتاب, سعي برنتون إلي التعرف علي الأسباب التي أدت إلي قيام كل من تلك الثورات, وإلي العوامل المشتركة التي يمكن رصدها فيما بينها. غير أن الأهم من ذلك هو أنه رصد النتائج التي ترتبت علي كل منها, والتي يجمع بينها جميعا أنها تمخضت عن مجتمع ودولة يختلفان جذريا عما كان قبلها. فالمجتمع الفرنسي, وعلاقات القوي الاجتماعية والطبقية فيه بعد الثورة الفرنسية, غير المجتمع الذي أفرز الثورة, كما أن المجتمع والدولة في روسيا بعد الثورة الشيوعية لا علاقة لهما تقريبا بالمجتمع والدولة الروسيين قبلها.. وهكذا. ربما كان ذلك- في الواقع- ما يفسر لنا تردد كثير من الكتاب والخبراء في العالم( خاصة في الغرب) أو إحجامهم عن وصف ما كان يجري في مصر بأنه ثورة! إنهم في الواقع- كانوا ينتظرون النتيجة التي تسفر عنها تلك المظاهرات الحاشدة منذ25 يناير, والإصرار الشعبي من جانب ملايين المصريين علي أن يستمروا في تجمعاتهم واحتجاجاتهم إلي أن يتحقق هدفهم, الذي أعلنوا أن الشعب يريده, أي: إسقاط النظام. وبعبارة أخري, فإن ما يفرق بين الثورة من ناحية, والانتفاضة أو الهبة الجماهيرية أو التمرد, من ناحية أخري, هو أن الثورة تحدث بالفعل وعلي أرض الواقع تغييرا جذريا ملموسا, فإذا الشعب يجد نفسه عبر لحظة عبقرية فاصلة- وقد انتقل من حال إلي حال آخر مختلف تماما, منبت الصلة بالقديم, بل ومناقض له. ذلك هو معني الثورة وجوهر مضمونها! وهذا المعيار هو بالضبط ما يمكننا من وصف ما حدث علي أرض مصر, فيما بين25 يناير و11 فبراير2011 بأنه ثورة! وبمقدار ما تتحقق أهداف تلك الثورة, يمكننا الحديث عن الثورة الناقصة, أو عن إجهاض الثورة, أو التحايل عليها, أي: التحايل علي تحقيق أهدافها, والحيلولة دون الوصول إلي غاياتها النهائية. وهنا, يتعين أن نعود لنحدد- بشكل أكثر دقة- الهدف الذي سعي ملايين المصريين إلي تحقيقه من خلال ثورتهم العظيمة. نعم, إن إسقاط النظام كان هدفا معلنا, زأر به ملايين المصريين بكل عزم وإصرار. ولكن ذلك الإسقاط للنظام لم يكن قط هدفا في ذاته, وإنما الهدف الضمني غير المعلن, والمسلم به في الوقت نفسه, هو إقامة نظام بديل يختلف جذريا عن النظام القائم, هو ببساطة ووضوح نظام ديمقراطي حقيقي يحل محل النظام السلطوي الفاسد الذي عانوه جميعا, حتي وإن كانت القطاعات والقوي الأكثر تسييسا ونشاطا بينهم تنادي بديمقراطية ليبرالية, أو بديمقراطية اشتراكية, أو بديمقراطية إسلامية, كل حسب توجهه وتفضيلاته. ذلك ينقلنا إلي سؤال آخر هو: هل تحقق هذا الهدف للثورة, أي إقامة النظام الديمقراطي؟ الإجابة ببساطة هي: نعم, ولكن! فنحن كما سبقت الإشارة- إزاء ثورة ناقصة, أو ثورة لم تكتمل! فإذا انتقلنا إلي محاولة تشريح هذه الثورة في حدود ذلك التوصيف لها والذي سنتناوله في أكثر من مقال- فإن السؤال الأول, أو المطلب الأول, في تشريح الثورة هو تحليل أسبابها, أو العوامل التي أدت إليها. وليس من الصعب هنا أن نفرق في تلك العوامل بين التناقضات الأساسية في المجتمع المصري التي شكلت التربة الخصبة لنشوب الثورة, وبين العوامل المساعدة التي أشعلت فتيلها في مصر. تربة الثورة الخصبة تشكلت أولا بفعل التناقض الطبقي الهائل غير المسبوق في مصر- بين أقلية علي رأس الدولة والمجتمع, تحظي بكل مظاهر التقدم والثراء والرخاء, وبين نسبة لا تقل عن30% من المصريين يعيشون ليس فقط تحت خط الفقر, وإنما تقريبا دون مستوي المعيشة الآدمية. وفي حين تعيش الفئة الأولي في الأحياء الراقية في المدن, وفي تجمعات سكنية انتشرت في العاصمة أو حولها وعلي أطراف المدن الكبري, فإن أبناء الفئة الثانية يعيشون فيما لا يقل عن ألف منطقة عشوائية, فضلا عن مئات الأحياء الفقيرة داخل وخارج المدن المختلفة. وتربة الثورة المصرية أسهمت في إخصابها ثانيا- مظاهر الظلم الاجتماعي التي تمثلت في تقديم الخدمات الأساسية, مثل التعليم والصحة والإسكان, بمستوي عال في شكل مدارس أجنبية, ومدارس لغات, فضلا عن جامعات خاصة باهظة التكاليف تزاحم الجامعات الحكومية العريقة, وفي شكل مستشفيات ومراكز صحية فاخرة, تقدم الخدمة الصحية, مصحوبة بخدمات فندقية شديدة الرفاهية! وفي شكل منتجعات سكنية فاخرة معزولة ومسورة, فضلا عن وفرة في الإسكان الفاخر, ربما يزيد كثيرا علي الطلب عليه, لفئات محدودة ومحظوظة علي رأس الهرم السكاني, في حين تصل هذه الخدمات شحيحة وفقيرة ومتدنية للغالبية العظمي من المواطنين المصريين, والتي لا يحصلون عليها- مع ذلك- إلا بشق الأنفس, فضلا عن اللجوء للتحايل والرشوة! وتربة الثورة المصرية أسهم في بلورتها ثالثا- أداء اقتصادي تناقضت مؤشراته العالية المعلنة, مع تأثيراته المتواضعة في حياة المواطن العادي, الذي أصبح يسمع عن الإنجاز الاقتصادي, دون أن يري أو يلمس نتائجه وآثاره بشكل مباشر أو غير مباشر. وتربة الثورة المصرية تشكلت رابعا- من أداء وتداعيات نظام سياسي سلطوي لا ديمقراطي- تركزت السلطة السياسية فيه في يد حزب واحد بل شلة واحدة. إنه نظام تحولت فيه المؤسسات السياسية إلي هياكل فارغة المضمون, وتحولت القيادات السياسية إلي ما يشبه الدمي, فاقدة الروح والفاعلية! ومع انتفاء السياسة بالمعني الحقيقي, زاد واستفحل دور الأجهزة الأمنية, التي تحولت عن أداء أدوارها المفترضة إلي مراكز حقيقية للقوة, فوق أي مساءلة أو رقابة. وتحكم جهاز أمن الدولة في كل شيء في مصر تقريبا, بدءا من تحديد من يتولون المناصب كافة من أدناها إلي أعلاها, وحتي الرقابة علي سلوكيات وأداء القيادات والمؤسسات! ثم زاد الطين بلة منذ أوائل العقد الأخير- بروز احتمالات توريث الحكم لابن الرئيس, التي بدت خافتة في البداية, ثم تحولت إلي يقين وإلي كارثة مقبلة لا محالة. هذه الحقائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية شكلت برميل البارود, أو كتلة الوقود القابلة للاشتعال! وجاء فتيل الإشعال أو شرارة الإشعال من وقائع متوالية في أواخر2010 وأوائل.2011 ففي مصر, وخلال شهري نوفمبر وديسمبر2010, جرت أسوأ انتخابات تشريعية, استهتر فيها الحزب الوطني بقيادة أحمد عز وجمال مبارك- بكل القوي السياسية علي نحو مشين, وتم تزوير الانتخابات بطريقة غير مسبوقة, ليستحوذ الحزب الوطني علي المقاعد كافة تقريبا مع بعض الفتات التي تركها لأحزاب المعارضة, التي لم تجد بعدها بدا من محاولة إنقاذ ماء وجهها وتعلن انسحابها من انتخابات الإعادة, لتلحق بحزب الجبهة الديمقراطية الذي أعلن منذ البداية رفضه المشاركة في الانتخابات, ما دامت تتم بلا أي ضمانات لنزاهتها. ولنتذكر هنا أيضا أن تلك الانتخابات التشريعية سبقتها في يونيو2010 عملية تزييف هائلة أخري لا تقل إلم تزد- فجاجة وفجورا! وهي انتخابات مجلس الشوري يونيو.2010 وأذكر أنني كتبت في المصري اليوم(6 يونيو2010) مقالا أعقب فيه علي تلك الانتخابات بعنوان علامات النهاية, جاء في مقدمته: ما حدث في انتخابات الشوري أول يونيو الماضي سوف يدرج في تاريخ الحياة السياسية المصرية المعاصرة ضمن العلامات المهمة علي احتضار النظام السياسي وقرب نهايته.., فإحدي العلامات الأساسية التي يستدل بها علي انهيار نظام سياسي ما هي وصوله إلي درجة عالية من الجمود والتصلب, وعجزه عن إبداء أي قدر من المرونة إزاء ضغوط ومطالب الاصلاح والتغيير, وكان ذلك هو المشهد العبسي المؤسف الذي ساد مصر طوال الثلاثاء الماضي. فقد أقنعت تلك الانتخابات الشعب المصري كله, والنخبة المصرية بوجه خاص, وشباب الأجيال الصاعدة علي نحو أخص, بأن النظام السياسي في مصر قد أصبح حالة ميئوسا منها, وأنه لا بديل عن إنهائه وتغييره. ولأن الشيء بالشيء يذكر, أرجو أن يسمح لي القارئ بأن أستعيد أيضا ما كتبته في المصري اليوم, بتاريخ(10 أكتوبر2010) أي قبل25 يناير بثلاثة أشهر ونصف شهر بالضبط, بعنوان في وقت السحر, جاء فيه إنني أعتقد أن اليل الطويل قارب علي الانتهاء, وأن تباشير الفجر تلوح في الأفق.. إننا بعبارة أخري, نعيش في وقت السحر, أي ذلك الجزء الأخير من الليل الذي يسبق طلوع الفجر!. ثم جاء النموذج الملهم من المغرب العربي, من تونس! مرة أخيرة, أعود إلي ما كتبته في المصري اليوم بتاريخ(6 يناير2011), معلقا علي ذلك الحدث العظيم لحسن الحظ, فإن للثورات والهبات الجماهيرية عدوي تنتقل من بلد إلي آخر. ولحسن الحظ, فإن ما يحفل به عالم اليوم من قدرات وآليات حديثة ومتعددة للتواصل البشري بين المجتمعات.. خاصة بين الشباب, يجعل تلك العدوي وذلك التأثير أكبر بكثير مما كان في الماضي, وأنه بالقطع عدوي مفيدة مطلوبة: عدوي الصحة لا المرض, عدوي الحرية لا الاستبداد, عدوي الثورة وليس الخنوع والاستكانة.. وذلك هو بالضبط ما حدث فعلا علي نحو فاق كل التوقعات!. المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب