سيدي.. اسمح لي قبل أن أبدأ حكايتي بأن أدعو لمصر بالنجاة من الفتن والمحن التي تحاك لها, وان يكتب الله لها السلامة والنصر.. فما يحدث الآن أدخل الأمل والفرحة علي قلبي الحزين بعد ان ضاعت مني كل سبل النجاة وفقدت الأمل في شفاء ابنتي التي أعياها اهمال المسئولين قبل المرض. أنا ياسيدي امرأة علي أعتاب العقد الثالث من عمري, نشأت في احدي قري محافظات مصر, وسط ثلاثة أولاد وبنتين لأب يزرع أرض الغير مقابل جزء من المحصول نقتات منه, وأم ريفية طيبة حنون تدير حياتها بحكمة, كان أبي يعمل في الحقل ليل نهار وكنا قليلا ما نراه في البيت, فدائما يأتي من عمله بعد صلاة العشاء يتناول عشاءه ثم ينام ليستيقظ قبل صلاة الفجر يصلي ويمضي حاملا فأسه متجها إلي عمله, ولأننا لا نجلس معه كثيرا كنا نصحو فجرا لنراه ونفطر معه في جلسة أسرية جميلة حول موقد صنعته أمي من الطين يعلوه براد الشاي وقليل من اللبن وبعض الخبز اليابس الذي كانت تضعه أمي علي نار الموقد فيلين, نأكل ونشبع ونتبادل الألفة والحب بيننا وسعادة لا تقدر بمال. أعرف سيدي أنه من الخطأ ان يترك الفقراء أنفسهم للانجاب بعشوائية فيعاني أطفالهم الحرمان والحوجة واحساسا مؤلما بمعني الفقر, لكن ارادة الله ومشيئته كانت فوق ترتيب البشر وتدبيرهم, فأنجب أبي خمسة أطفال ان صح تعبيري دون قصد, فكان أبي لا يكل ولا يهدأ ولا يعرف معني النوم, وقضي حياته كلها في الحقل يعمل ليل نهار ليسد أفواه أطفاله ويضمن لهم علي الاقل لقمة العيش, وكنت أري أمي وهي تتألم من كثرة الأعباء التي كانت سببا في رحيلها عنا بعد أن أتعبها المرض, وماتت لأننا لم يكن لدينا ما نعالجها به, ولم يكن هناك مسئولون عن مرضي هذا البلد غير القادرين, بل كانوا يشعروننا في تعاملهم معنا بأننا نتسول العلاج, وكأننا ليس لنا حق في الحياة كباقي البشر, فعشنا بجانب الحرمان فقدان أغلي ما في الحياة أمي, ليضيف اليتم الي ما نحن فيه حزنا وانكسارا وشعورا باليأس من الحياة, ولو هناك مجال للحديث لكتبت كثيرا, فأصعب وأعظم حدث يعانيه الانسان في حياته هو موت الأم. كنت أشعر بوالدي وأشفق عليه برغم أني أصغر اخوتي, ومنذ اشتد عودي ذهبت للعمل معه في الحقل فرفض قائلا: أنا للغيط والشغل وانتم للمستقبل, كنت وقتها في الصف الثاني الاعدادي وفي كل اجازة صيفية أذهب للعمل مع والدي في الحقل, وظللت علي هذه الحال حتي حصلت علي دبلوم تجارة, وكان اختياري لهذا النوع من التعليم لاختصار الطريق وتخفيف العبء عن هذا الرجل الصابر الذي ما تخاذل أو تهاون أبدا عن مسئوليته, وانتظرت هذا اليوم بفارغ الصبر لأتفرغ للعمل ومساعدة والدي في تحمل المسئولية ونفقات الأسرة الكبيرة. سيدي.. هل هناك أفضل من الستر وان ينعم الانسان بالراحة النفسية ويشعر بأنه يرضي عن نفسه؟ لا يوجد انسان علي وجه الأرض لا يبحث عن ذلك, فأغلب النفوس الراضية لا تحلم بأكثر من ان تجد قوت يومها والصحة والستر, وما أكثرهم في قري محافظات مصر.. فيها ناس سقطوا من حسابات الدولة والمسئولين وأصحاب المليارات التي فزعنا عند سماعها, أليست هذه المليارات كانت سببا فيما نعانيه من فقر ومرض وجهل وتخلف وانحلال أخلاقي لمجتمع بكامله؟ نعم سيدي هم السبب في تدهور حالة ابنتي وفي موت أطفال كثيرين لا يجدون رعاية صحية لأنهم لا يملكون مالا يعالجون به, فكلما نظرت في وجه ابنتي وهي تتألم رفعت وجهي للسماء داعية المولي عز وجل أن يشفيها ويرحمني من الألم الذي أشعر به في قلبي في كل لحظة ألم تمر عليها, وأن يحمينا من كل خائن أراد بأهل مصر سوءا. ربما أكون قد أطلت الحديث ولم أتحدث عن مأساتي التي بدأت مع أول مولود لي, فزواجي كعادة أهل القري جاء في سن مبكرة وبمجرد أن انتهيت من دراستي, تزوجت من أحد أقاربي وهو شاب متوسط الحال يعمل بأحد مصانع الرخام, لكنه رجل يعرف كيف يرعي أهل بيته, وكانت حياتي برغم ما بها من آلام وتعب وكد سعيدة, لكن دائما كان يشغلني هاجس المرض الذي عانت منه والدتي وماتت بسببه ولم نجد ما نعالجها به. كنت أحاول طرد هذا الهاجس ومحاولة العيش بأمل في القادم, واستبشرت خيرا عندما رزقني الله بطفلة جميلة, بقدومها دخل حياتي نور أضاء قلبي وجعلني أحب الحياة فسميتها نور, فرحت بها وشعرت بإحساس الأمومة الجميل, وبعد ميلادها باسبوع لاحظت صعوبة في تنفسها وتغير وجهها الي اللون الازرق, فأسرعنا بها للطبيب, وبعد الكشف والفحوصات تبين ان لديها بعض المشاكل بالقلب تم تشخيصها بأنها ضيق في أحد شرايين القلب ولابد من اجراء عملية جراحية لها بعد أن تبلغ خمس سنوات من عمرها. لن أقول لك كيف كان وقع الصدمة علينا ولا يوجد وصف شاف يمكن أن أصف به حالتي أنا ووالدها بعد سماع هذا الخبر, وسألت نفسي: هل ما حدث لابنتي هو ذلك الهاجس الذي كان يراودني؟ ولماذا جاء في ابنتي ولم يأت في أنا بدلا منها فتكون المصيبة أهون؟ فكم من ليال قضيناها نترقب تنفسها وهي تتنفس بصعوبة, حتي انها في بعض الأحيان كانت تصاب بغيبوبة ونهرع بها الي المستشفيات ونحن يعتصرنا الالم ويطاردنا الخوف من شبح الموت ان يأخذها منا, وفي كل مرة كان يؤكد الاطباء أن حالتها مقلقة ولا يمكن اجراء هذه العملية لها وهي في هذه الحالة الصحية, بعد أن اثر المرض علي نموها وحرمها من أشياء بسيطة في الطعام وفي اللعب وفي أن تعيش حياة طبيعية, وما كان يقلقني انها تعرف مرضها, وكثيرا ما تقول لي هو أنا ممكن أموت وأنا نايمة يا ماما, فاحتضنها وأنا احبس دموعا تحرق قلبي قبل عيني. ومرت تسع سنوات وهي ما بين حياة وموت تفتقد اشياء كثيرة أقلها أن تلعب مثل أقرانها, فكانت تجلس أمام الاطفال وهم يلعبون ويلهون, بينما هي لا تستطيع, وكان ينفطر قلبي عندما تتوسل لي ان اتركها تلعب مع الاطفال, وعندما اتمت تسع سنوات ذهبت بها الي الهيئة العامة للتأمين الصحي للكشف عليها, فكان قرار لجنة القلب بتحويلها الي معهد القلب القومي لاجراء عملية قسطرة تشخيصية علي القلب لوجود اشتباه انسداد وصلة شريانية, وارتفاع بضغط دم الشريان الرئوي, وذلك بتاريخ2006/11/19, ومنذ ذلك التاريخ ونحن نتردد علي مستشفيات التأمين الصحي لإجراء العملية, ولم نجد أي اهتمام أو حتي الاستماع الينا, وكان الرد الجاهز في كل مرة انه لا يوجد مكان فارغ ولا امكانيات لاجراء العملية, وفقدنا الأمل في أن يتم علاجها في مستشفيات الحكومة أو علي نفقة الدولة, وحتي عندما سعينا لاستخراج قرار علاج فوجئنا بسماسرة يتاجرون بالناس. كان آخر أمل لنا هو اللجوء الي المستشفيات الخاصة فوجدنا العملية تتكلف مبلغا من المال لا يوجد معنا منه شيء, وفكر زوجي في بيع البيت الذي نسكن فيه, لكن البيت مشاركة بينه وبين اخوته ولا يستطيع البيع, ووجدنا انه حتي ان اخذ نصيبه من البيت فلن يفي بنصف تكاليف العملية.. ضاقت بنا الدنيا وشعرنا بالعجز والحسرة وقلة الحيلة, وانا اري ابنتي تنطفئ أمام عيني, وكل يوم يمر عليها يضعف جسدها أكثر ويضيق صدرها فلا تستطيع التنفس, ولا الحركة, ومن وقت لآخر تزرق أظافرها, وتذهب للحمام كثيرا, حتي انها في بعض الأوقات لا تتحكم في تبولها, وتنتابها حالات نهجان تفقدها الوعي.. إن ما يؤرقني هو كيف أعالج ابنتي وأوفر لها ما يساعدها علي تخطي آلام المرض ومر الدواء, فأرسلت ل بريد الجمعة والخير الذي دائما يقف بجانب المحزونين, راجية الله سبحانه وتعالي ان يغيثنا بصاحب قلب رقيق يشعر بمعاناتي وحزني علي ابنتي الجميلة نور التي تعيش نصف حياة, ومنذ ولدت وكل أملها وأملنا هو اجراء العملية لتستطيع ان تلعب وتتعلم وتعيش كباقي الاطفال فلا أجد ما أصف به حالتي أنا ووالدها ونحن نراها تتنفس بصعوبة حتي انها في بعض الأحيان تصاب بغيبوبة, فهل من أمل يعيد الينا الحياة! سيدتي.. لا يوجد الم أقسي من ذلك الذي يعتصر قلب أم علي وليدها, ويزداد هذا الألم عندما تشعر بالعجز عن تخفيف هذا الألم. نعم ياسيدتي ألمك قاس, وعتابك حق, واتهامك لمن نهبوا المليارات وأهملوا في علاج الفقراء واقع نلمسه بأيدينا الآن, ولو كانت في قلوبهم أدني رحمة, لقللوا من سرقاتهم حتي يتوافر علاج الفقراء من هذا الشعب. ومثلك من الأمهات بدعائهن هو الذي زج وسيزج بهؤلاء الي السجون. المؤسف سيدتي ان الاستجابات الآن من المسئولين أو أهل الخير أصبحت محدودة, ربما للانشغال بأمور أخري أو لنقص الميزانيات أو لظروف اقتصادية صعبة, علي الرغم من اننا الآن احوج ما نكون الي التكاتف ومد يد العون لبعضنا البعض. ومع هذا اطمئني يا أم نور وثقي بأن رحمة الله وسعت كل شيء, فتفضلي بارسال أوراق نور واشعاتها وسوف نتكفل بعون الله بعلاجها, فابتسامة واحدة علي شفتي نور قد تمنحنا الامان في المستقبل, وليكن هاجسك هو الأمل والتفاؤل وان نور ستعود اليك سالمة سعيدة تلعب وتلهو مع أقرانها. نحن في انتظارك والأمل دائما كبير في الله.