بصراحة, لقد آن الآوان لكي تنضج النخبة كلها فلم يعد يكفي إصدار الأحكام الانطباعية, أو تناول الأرقام السماعية دون تدقيق, وقبل هذا وذاك يجب أن نكون مستعدين لتقبل أخبار موجعة أو حسنة تقود كلها إلي قراءة أقرب إلي الدقة للواقع المصري. إن هناك سؤالين لا تكف كل المنتديات المصرية عن طرحهما: إلي أين تتجه مصر؟ وكيف حال المحروسة الآن؟ وفي الأوساط الثقافية في العموم, أو النخبة الفكرية والسياسية, فإن السؤالين أحيانا يكونان محملين بالإجابة من خلال ما يفشيه الوجه والجسد والعيون من إشارات كلها تقول إن الإجابة عن السؤال الأول هو: إلي المجهول, أما الثاني فهو أن الأحوال ليست فقط لا تسر, بل إنها تتجه من سييء إلي أسوأ, مقارنة طبعا بالأحوال المجيدة التي عاشتها مصر خلال الستينيات من القرن الماضي, أو الأحوال التليدة التي عرفتها مصر قبل منتصف القرن العشرين. الأسئلة هكذا مطروحة بقوة بين الساسة والإعلاميين والمثقفين, ولكنها تكاد تكون غائبة- كما تقول كل استطلاعات الرأي العام المتاحة في مصر- بين العامة حيث توجد قضايا أخري أكثر أهمية من هذه التساؤلات المثيرة. من جانب آخر, فإن هذه الأسئلة مترابطة حيث لا يمكن معرفة اتجاه المستقبل المصري, ما لم يكن لدينا طريقة متفق عليها لقياس الحالة المصرية التي تجد كثرة من الصفوة أنها باتت من السوء بحيث لا يتصور وجود علاج لها إلا بزلزال من نوع أو آخر; أما قلة فقد وجدت أن حل معضلة المفارقات بين القول والواقع يوجد في ابتداع نظرية نصف الكوب الفارغ والنصف الآخر الممتلئ دون أن تعرف أبدا عما إذا كانت هناك علاقة بين الفراغ والامتلاء أم أن الحالة بها من الانفصال ما يرقي إلي علاقة الزيت بالماء؟ إن من يستمع إلي المنتديات المختلفة لا يجد مؤشرات معينة أو مقاييس محددة لقياس واقع ظاهرة أو تحديد الحجم الحقيقي لمشكلة بعينها, وما يحدث هو إطلاق أحكام مطلقة ومجرد انطباعات ذاتية وصور نمطية لا تتغير, ويغلب عليها التعميم أو البعد غير العلمي في التقييم, بما لا يتيح التعرف علي الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية في هذا البلد, أو الكشف عن جوانب الإنجاز وجوانب القصور في مرحلة زمنية في مؤشر بعينه, سواء كان خاصا بالإصلاح السياسي أو التطور الاقتصادي أو التنمية البشرية أو مجتمع المعرفة أو حقوق الإنسان بما فيها الحريات الصحفية والحريات الدينية وغيرها. وإذا كان التعرف علي المستقبل المصري يبدأ بأننا جميعا, مواطنين وحكاما, نخبة وجماهير, شركاء في صناعته, لأنه في الأول والآخر صناعة بشرية, فإنه لايمكن التحدث عن مساره الذي يتشكل من الواقع والإرادة دون اتفاق علي قياس الحالة وفهم آليات الحركة داخلها, وهنا فإن الأمر كله يحتاج إلي قدر غير قليل من الإخلاص والنزاهة الفكرية وسلامة الضمير. آخر نموذج لما أقصده حدث أخيرا, فبعد أن فازت مصر بكأس الأمم الأفريقية في كرة القدم, ومن بعدها جاءت الجائزة بعد حمل الكأس- في أنها أصبحت الدولة العاشرة في التصنيف الشهري الذي يصدره الاتحاد الدولي لكرة القدم' الفيفا' علي موقعه علي الانترنت عن مستوي المنتخبات, بعد دول مثل أسبانيا والبرازيل وهولندا وإيطاليا والبرتغال وألمانيا وفرنسا والأرجنتين وانجلترا علي الترتيب. وكانت مصر قد احتلت المركز الرابع والعشرين في تصنيف الشهر السابق, مما يعني إنها قفزت أربعة عشر مركزا نتيجة فوزها بكأس الأمم, متفوقة علي منتخبات عريقة عدة مثل الولاياتالمتحدة والمكسيك وكرواتيا. كما جاء المنتخب المصري الأول عربيا, وكان أقرب المنتخبات العربية له هو الفريق الجزائري الذي استقر في المركز الحادي والثلاثين, كما أتي منتخب مصر في المرتبة الأولي أفريقيا أيضا حيث كان أقرب منتخب له نيجيريا الذي احتل المرتبة الخامسة عشرة عالميا. المثير أن مثل هذه الأنباء ولدت فورا اتجاها في الكتابات المصرية يشير إلي تواضع الحلم المصري وإنحساره في ساحة الرياضة فقط, بحيث تم تصوير ما تحقق من إنجازات كروية علي أنه الاستثناء وليس القاعدة, وعلي أنه يمثل استثناء خارج السياق العام, فلم تحدث وفقا لذلك الاتجاه- إنجازات ملموسة في الإصلاح السياسي ومعدل النمو الاقتصادي والاستثمار الأجنبي والتوافد السياحي والإنتاج الثقافي أو ما يمكن تسميته ب' الفوز التنموي' في مصر, وهو ما يخالف العلاقة الارتباطية بين التقدم العام والتقدم في مجال بعينه, حيث أن هناك دائما استثناءات في الحياة المصرية, أو هكذا سار المنطق, بحيث نشهد بين الحين والأخر جزرا معزولة للتقدم ينجح فيها من وضع أسسا علمية لتطورها ونموها وتقدمها. سأعود قليلا إلي عالم الأكاديميا, فنقطة البداية في الموضوع كله هي أن هناك عددا من المقومات الأساسية لقوة الدولة, والتي يمكن الاستناد إليها لتحقيق مصالحها الوطنية, ومنها المساحة الجغرافية والطبيعة الديموغرافية والموارد الطبيعية والقدرات الاقتصادية والقوة العسكرية والبنية التكنولوجية, وكذلك نوعية القيادة والحالة المعنوية للشعب المنتمي إلي هذه الدولة. ولذا فإن صناعة التطور والتحديث ليست مسئولية الحكومات وحدها ولكنها أيضا مسئولية الشعوب, وإذا تم ترسيخ ثقافة المشاركة من داخل كل فرد في مصر, سيصبح مختلف أفراد المجتمع شركاء في إحداث التحول في مسار البلاد. وبالتالي, لا يصبح فوز المنتخب ببطولة كأس الأمم الأفريقية علي سبيل المثال حالة استثنائية وإنما تكون شاملة ومستمرة حيث تتبلور عقلية المنافسة والانتصار, التي تضع مصر في مكانة لائقة بين دول العالم في مختلف المجالات. المشكلة في مصر أن النظام الاجتماعي والثقافي يقوم علي مقاومة العوامل الدافعة لعملية التنافس في ساحات مختلفة, حيث إن فلسفة العقد الاجتماعي السائد بين الدولة والمواطن لا تقوم علي إطلاق حرية المواطن للمنافسة في سوق سياسية واقتصادية مفتوحة, بل علي إدارة العلاقة في ظل توازنات محكومة بعطاء الدولة وولاء المواطن. ولسنوات طويلة ساد عقد اجتماعي يغلب عليه سلبية تامة من المواطنين مقابل تدبير حكومي لكل الأمور والشئون, فالحكومة تتولي توفير ميزانيات التعليم ونمو الاقتصاد وخلق فرص العمل والرعاية بالصحة وتدبير الأساليب المختلفة للحراك الاجتماعي والجيلي, وهكذا تصبح الحكومة مسئولة عن المواطن المصري, من لحظة ميلاده وحتي وفاته, أو كما يقال من المهد إلي اللحد, وهذه الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا تخلق مواطنا قادرا علي خوض المنافسة, أويتوافر لديه دافع الفوز. وتشبه المنافسة المصرية في ساحة الرياضة ساحة تفوق وامتياز المصريين في الخارج, خاصة الدول الغربية, حيث يتم خوض المنافسة وفق قواعد متكافئة حددتها قوانين' اللعبة' في حال الرياضة وقوانين الدولة المستضيفة. إضافة لذلك, فإن عمليات القياس المختلفة للحالة المصرية لا يمكن فصلها ليس فقط عن الثقافة السياسية والاقتصادية السائدة في المجتمع, بل أيضا عن الدور الذي تقوم به النخبة في دعم هذه الثقافة حيث تميل بقوة إلي الجماعة علي حساب الفرد, بل وأحيانا جعل' الأمة'- العربية أو الإسلامية- فوق الوطن, وتنحاز بحماس للتعامل مع مصر علي أنها حالة استثنائية علي حساب اعتبارها جزءا من التطور العالمي. وأحيانا فإن حل معضلات القياس كلها يجري من خلال الاعتماد علي التقارير الدولية, وهي مسألة يجب فهمها. إن هناك تقارير سنوية تتسم بالصفة العلمية والرؤية المنهجية, تصدرها الهيئات الدولية مثل' الأممالمتحدة' و'البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة' و'البنك الدولي' و'صندوق النقد الدولي' و'اليونسكو' و'الأونكتاد', وهو ما يفسر حرص الدول علي الاهتمام بما تنشره والتأكد من دقة البيانات والإحصاءات الواردة فيها, ومن ثم التفسيرات والتقييمات التي تتضمنها بشأن هذه الدولة أو تلك. ومن أبرزها تقرير التنمية البشرية الدولية أو تقرير حالة السكان في العالم أو تقرير الصحة العالمية. كذلك هناك تقارير صادرة عن بعض المنظمات الدولية غير الحكومية, مثل التقارير الصادرة عن منظمات' العفو الدولية' و'هيومان رايتس ووتش' و'مراسلون بلا حدود', وتقرير التنافسية العربي الصادر عن المنتدي الاقتصادي العالمي في دافوس. وفي كثير من الأحيان, يتم الاستعانة بها أي التقارير- ك' مراجع' في إجراء البحوث والدراسات, بل يتم الاستناد إليها في صنع السياسات واتخاذ القرارات. وتتيح هذه التقارير الدولية معرفة الواقع الحقيقي للدولة في السياق العالمي وإدراك مكانتها في الإطار الدولي, وأن اختلاف مواقع الدول من تقرير لآخر يرجع لاختلاف المنهجية. علي الجانب المقابل, هناك عدد من المراكز البحثية في الدول الغربية تقوم بوظائف سياسية ودعائية أكثر من الاضطلاع بمهام أكاديمية وبحثية, وهو ما يفقدها صفة العلمية, وأبرزها مؤسسة التراث' الهيرتيدج' وبيت الحرية' فريدوم هاوس', والتي تتبني مواقف سياسية وانحيازات أيديولوجية وتروج لعدد من الأحكام المطلقة والأفكار المغلوطة في قضية ما. وبالتالي, يغلب عليها عامل' التسييس' وعدم التدقيق مع خصوصية الحالة وعدم تقديم صورة كلية متوازنة وفي سياق محدد. كما أنها تستقي بياناتها ومعلوماتها من مصادر أجنبية قد تكون مضللة في أغلب الأحيان. والأكثر من ذلك أنها قد تبني رؤاها علي الصور المغلوطة التي يروج لها' المطاريد' أو الغاضبين في الخارج. ومن تحليل مايرد في التقارير' المنضبطة' بصورة إجمالية, فإن الحالة المصرية في التنمية أو التخلف ليست خاصة أو استثنائية, حيث يمكن تلمس مكانتها من خلال المقارنة مع الخبرات والتجارب المختلفة لدول واقعة في أقاليم عدة في العالم, عبر مؤشرات كمية وكيفية معا, لفهم الأبعاد المختلفة لهذا القطاع أو ذاك, ومدي حدوث تطور أو تراجع من فترة زمنية لأخري. وربما يحدث تقدم جزئي لا ينعكس علي المؤشرات الكلية, لكنه يشير إلي حدوث تطور في قطاع بعينه في بلد مثل مصر. وعلي سبيل المثال, تتحدد الحالة التعليمية وفقا لتقارير التنمية البشرية بمعدل معرفة القراءة والكتابة(15 سنة فأكثر) ونسبة القيد في جميع المراحل التعليمية ونسبة القيد في التعليم الأساسي والثانوي وتوزيعها بين مدارس حكومية وخاصة وأزهرية. أما الحالة الصحية فتتحدد بالعمر المتوقع عند الميلاد والأسر التي تحصل علي المياه المأمونة وعدد الأطباء بوزارة الصحة لكل عشرة آلاف نسمة وعدد الممرضات لكل عشرة آلاف نسمة وعدد الوحدات الصحية لكل100 ألف نسمة وعدد وفيات الرضع لكل ألف مولود حي وعدد وفيات الأمهات لكل100 ألف مولود حي. وتقاس الحالة الاقتصادية بعدد من المؤشرات مثل متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومعدل النمو, والإجراءات المشجعة علي الاستثمار الأجنبي, وتطور إجراءات مواجهة الفساد, ونسبة الفقراء من السكان ونسبة الأشد فقرا من السكان ومعدل البطالة في الريف والحضر, بالإضافة إلي معدل البطالة حسب المستويات التعليمية( دون الثانوي- الثانوي- الجامعي). وتقاس الحالة الإنتاجية بالنسبة المئوية لقوة العمل( أكثر من15 سنة) في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات. وتسجل أيضا بعض التقارير الاقتصادية الدولية تحقيق مصر للتقدم فيما يتعلق بفتح باب الاستثمار الأجنبي, لكن ليس بالدرجة التي تنقله من حال إلي أخري, كما جري مثلا في فيتنام حيث ارتفع من لا شيء تقريبا منذ عقدين إلي63 مليار دولار في العام الماضي, بينما جري الارتفاع المصري من بضعة ملايين إلي13 مليارا منذ عامين و8 مليارات في العام الماضي. يضاف إلي ذلك الطفرة التي تحققت في تكنولوجيا الاتصال ومجتمع المعرفة, من خلال امتلاك أجهزة الكمبيوتر الثابت والمتحرك' لاب توب' والهواتف الثابتة والمتحركة والأطباق اللاقطة' الدشات', والتعامل مع شبكة الانترنت, وهو ما يمكن أن يتلمسه الفرد بشكل مباشر في تعاملاته اليومية وفي طبيعة الخدمات المقدمة إليه والبيئة المحيطة به. كما تشير التقارير الدولية إلي التحسن الحادث في مجال التنمية البشرية وخاصة الصحة الإنجابية وتخفيض وفيات الأطفال والأمهات في مصر. ففي عام1980, أي قبل ثلاثة عقود, شهدت مصر أعلي معدل لوفيات الأطفال لدرجة وصلت إلي معدل وفيات الأطفال في أثيوبيا خلال عام2007, لكن بمستوي تقدمها الراهن سوف تلحق بالسويد في العام الجاري2010, وهو ما يشير إلي أن مصر تقع ضمن فئة البلاد التي تتجه إلي المسار الصحيح في هذا المجال أو ذاك. كما تشير سلسلة تقارير التنمية البشرية الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلي حدوث تراجع في جميع جوانب الحرمان البشري, باستثناء البطالة, خلال السنوات العشر الماضية, وإن أبرزت تلك التقارير مع تقارير أخري صادرة عن البنك الدولي, حالة التفاوت بين الأقاليم والمحافظات المصرية في مؤشرات التنمية المختلفة, سواء بين الريف والحضر, الوجه البحري والوجه القبلي. المسألة إذن تقوم علي النسبية بين الماضي والحاضر, وبين مصر والدول الأخري, وحتي بين مصر ونفسها في أقاليمها ومناطقها, ويحتاج الأمر إلي البحث في المجالات المختلفة عن أسباب تخلفها أو تراجعها أو نجاحها حتي يمكن نقلها والاستفادة منها. وهناك تحد يواجه مصر في المرحلة القادمة يتعلق بضرورة قياس مستوي تقدم الأنظمة المؤسسية واللوائح التنظيمية والعراقيل الإدارية, إذ أن البيروقراطية تمثل أم المشكلات التي يتعين الالتفات إليها في بلادنا. فمازالت لقيم الولاء والانتماء أكبر الأثر مقارنة بالكفاءة, كما أن الأولوية للأقدمية والتدرجية في الترقي الوظيفي داخل الجهاز البيروقراطي. ولكن كل ذلك لا يكون مفيدا ما لم يكن في لغة رصينة بعيدة عن الإثارة واللعب علي المشاعر, وساعتها سنكون قادرين ليس فقط علي معرفة الطريق الذي تسير مصر نحو المستقبل, وإنما أيضا دور كل منا في صناعة المستقبل الذي نريده, وعما إذا كنا علي استعداد لدفع ثمن ما نريد حيث لا يكفي المطالبة بأن تكون مصر مثل الدول المتقدمة الأخري من حيث الديمقراطية والتنمية, وإنما الاستعداد للتغيير والتضحيات التي قدمتها. [email protected]