في أحد فصول الجزء الثاني من رائعة توفيق الحكيم عودة الروح يدور حوار بين فرنسي وبريطاني في القطار الذي يمر بهما عبر القري والكفور,وهما في طريقهما لعزبة والد محسن. وعبر الحوار الذي يبدو فيه انبهار الفرنسي. ووصفه للمرئيات المتتابعة عبر نافذة القطار وكأنه يرسم صورة لكارت بوستال, يرصد الحكيم تأفف البريطاني, ليصبح المشهد وكأنه الوصف الجامع الشامل والمختصر للكتابات والرؤي الغربية التي تتناول الشرق, والتي تتأرجح ما بين الرومانسية الشديدة والخيالات والأحلام وبين الصور الكئيبة لبلاد غامضة الملامح وشخصيات لا تعبر سوي عن التخلف وافتقاد الحس الحضاري وعقد النقص أمام الغربيين., ليصبح الأمر في كلتا الحالتين مجرد رؤي انطباعية لا تعكس فهما أو معايشة حقيقية للواقع أو فهما لدلالات الأشياء والظواهر. واليوم في ظل الحالة الثورية العارمة التي طالت كل بلدان المنطقة العربية وأدت لتغيير نظم وآليات حكم استقرت في المنطقة لعقود طويلة, لتتصدر أخبارها أجهزة الإعلام في العالم وتتابعها, باهتمام ملحوظ, دول الغرب تحديدا, التي تحاول أن تتلمس الواقع الجديد الذي بدأ يتشكل علي أرض المنطقة. يصبح من المنطقي أن تطرح قضايا الاستشراق الذي عرفه ادوارد سعيد بأنه المجال المعرفي أو العلم الذي يتوصل به إلي الشرق بصورة منظمة كموضوع للتعلم والاكتشاف والتطبيق وأنه نوع من الإسقاط الغربي علي الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق- نفسها من جديد وأن تطفو علي السطح عدة أسئلة ليس فقط عن محاولات التخلي أو الالتفاف علي مصطلح الاستشراق لما ينطوي علي دلالات سلبية و استبداله بمسميات من قبيل مستعربونArabists أو إسلاميينIslamists أو باحثين في العلوم الإنسانية أو متخصصين التي تختص ببلد معين أو منطقة جغرافية معينةHumanists, بل أيضا حول نوعية الأعمال الأدبية والدراسات التي تهتم بها فئة هؤلاء الدارسون وإذا ما كانت لعبت دورا في تشكيل وعي وإدراك الجمهور في الغرب بواقعنا اليومي المعاصر في العالم العربي وأنها تدخل في حسابات صناع القرار جماعات الضغط في مجتمعات الغرب أو أن أشكال و مسميات الاستشراق الجديد قد كرست للصور النمطية عن الشرق وأسهمت في زيادة ظاهرة الاسلاموفوبيا ؟ ولأن هذا الواقع الجديد لا يزال في طور التحول والتشكيل ولأن الأقلام لم تسطر بعد حكاياته, نحاول أن نجد بعض الإجابات علي الأسئلة السابقة من خلال ما سطرته الأقلام وما قدمه تيار الاستشراق الجديد في الغرب في السنوات الأخيرة من رؤي و تحليلات حول الشرق و تصاعد تيار الإسلام السياسي. ففي دراسة صدرت عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية تحت عنوان تيار الاستشراق الجديد والإسلام, من الشرق الشيوعي إلي الشرق الإسلامي يتناول أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة فرايبورج في جامعة سويسرا ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس.د. أوليفييه مووس حالة الخطاب الثقافي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وتصاعد تيار الإسلام السياسي وانعكاساته في الرواية. تنقسم الدراسة إلي عدة محاور رئيسية; هي: تحليل للاستشراق الجديد والرواية الاستشراقية الجديدة( نيواستشراقية), وافتراضاتها, وسياق ظهور الاستشراق الجديد, والتحول من الاستشراق الكلاسيكي إلي الاستشراق الجديد, بالإضافة إلي دراسة كتابات بات يجاور; المؤرخة في الاستشراق الجديد, وتحليل موقف المرأة المحجبة في الرواية الاستشراقية الجديدة, وبحث تداعيات الرواية النيواستشراقية علي الحقول الإعلامية والفكرية والسياسية. ويبين الباحث أن مصطلح الاستشراق الجديد يعكس مذهبا ثقافيا جديدا ذا طبيعة أخلاقية, علي أساس تجديد افتراضات الاستشراق الكلاسيكي ومتطلبات الدفاع عن قيم الديمقراطية والحداثة.حيث يمثل الاستشراق الجديد تجديد وإعادة تأهيل الأطروحات الاستشراقية الكلاسيكية في سياق تنامي العلاقات بين الشرق الأوسط والدول الغربية, والعمل علي تشجيع العودة إلي قراءة هوية المجال الإسلامي عبر كتاب تتنوع رؤاهم الأيديولوجية والسياسية. وتضع الدراسة عدة افتراضات; تتمحور حول أن المجال الإسلامي كل متجانس, وأن الإسلام يشكل استثناء, وتفترض جمود العالم الإسلامي, وأن العنف الإسلامي نتاج ثقافي. ويؤكد الباحث وجود تحديد مزدوج لعالم عربي إسلامي ينظر إليه ككيان متجانس, ومحددات ثقافية يفترض أنها تقدم معلومات عن الفعل الجماعي والفردي للمسلمين. وينتج عن هذا الموقف سلسلة من الافتراضات المنهجية التي تختصر ظاهرة تتميز بالتعددية سواء في فضاءات المكان أو الزمان وتتجاهل التقسيمات الجغرافية والثقافية, مشيرا إلي أن فكرة الممارسة السياسية الإسلامية المشروطة بالمقدس والذات الالهية من ضمن هذه الافتراضات. وتستند السمة الثانية علي استثنائية الإسلام( كحضارة), بمعني أن الإسلام بوصفه نظاما للقيم يخبرنا عن كل نواحي الحياة الاجتماعية والفردية للمسلمين, من هذا المنظور يفسر تيار الاستشراق الجديد نقص أو غياب الإجراءات والثقافة الديمقراطية في الدول العربية والإسلامية بوصفها نتاجا لعوامل مرتبطة بالهوية في هذه المجتمعات: الثقافة, والدين, والتاريخ, وأن أي تطور نحو الديمقراطية والاعتراف بحقوق الإنسان لا يمكنه أن يكون إلا نتاج قطيعة أو عملية تغريب. أما فكرة جمود المجال الإسلامي فترتبط بنظرة الاستشراق الجديد إلي المجال الإسلامي بوصفه كتلة مصمتة وساكنة, حيث يتشكل الفرد عبر الثقافة والدين, في مقابل, نمط الغرب الديناميكي, الحديث, الذي يشكل معقلا للتحرر, ويوفر مساحات للإنجاز الفردي. ويرتبط خيال الإرهاب الإسلامي بشكل وثيق جدا بتعريف لالعقلية العربية وهو ما يفسر استخدام الإرهاب كنتيجة لالتأخر الثقافي, ولخصائص محددة لثقافة عربية إسلامية. وعن سياق ظهور الاستشراق الجديد, تشير الدراسة إلي أنه من بين النتائج التي أعقبت نهاية الحرب الباردة,حيث شكل زوال الاستقطاب الإيديولوجي بين المعسكرين أحد المداخل القوية لانبثاق الرواية النيواستشراقية في المجال الفكري والإعلامي الأمريكي والأوروبي. إضافة إلي الخريطة التي رسمها صمويل هنتجتون, في مقالته الشهيرة صدام الحضارات. ويشير الباحث إلي أن النقد الموجه للإسلام في قسم كبير منه ليس نتاجا لحالة عارمة من الإسلاموفوبيا بل نتاج لسياقات محددة من قبل مجموعة متنوعة من الفاعلين لخدمة أجندات إيديولوجية أو سياسية, محلية أو وطنية. ويؤكد مووس علي أن شخصيتين اثنتين كانتا في قلب الانتقال من الاستشراق الكلاسيكي إلي شكله الجديد; هما: عالم التاريخ البريطاني برنارد لويس; والذي ساهم مقاله ما الخطأWhat Went Wrong? في أسلمة أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وصمويل هنتجتون, حيث صاغ كتابه عن صدام الحضارات. وتتطرق الدراسة إلي الأطروحات التي طورتها بات يجاور; وهي مؤرخة بريطانية من أصول يهودية من مصر, خاصة حول الذميانية اللفظ المشتق من اللفظ العربي ذمة التي تشير إلي علاقات التبعية بين السلطة الإسلامية والسكان المسيحيين واليهود وأورابياEurabia( المزج بين الأوربة والإسلام,). ويقول الباحث إن كتابات المؤرخة البريطانية, ومنذ الحادي عشر من سبتمبر2001, وبفعل استثمارها في رواية الفاشية الإسلاموية, لا تجد صدي حماسيا لدي جمهور أقل أو أكثر تطرفا من الناحية الأيديولوجية فحسب, ولكنها أيضا تؤثر في أوساط أكثر أهمية من الناحية الفكرية. ويؤكد الباحث أنه في أوروبا بشكل خاص, تتناول التفاسير النيوإستشراقية,الممارسات المرتبطة بالحجاب كرمز يحيل, بشكل مزدوج, إلي حالة تمييز بين سلطة ذكورية فاعلة وبين خضوع أنثوي سلبي, وكشعار يدل علي الفصل بين فضاء الحداثة وبين تقليد غابر. ويختتم الباحث دراسته بسؤال حول تأثير الرواية الاستشراقية الجديدة علي إدراك القارئ وصانع القرار في الغرب, فيشير إلي أن الهدف الرئيسي للاستشراق الجديد ليس توفير أداة لفهم التحديات السياسية والاجتماعية حيث يتم التحرر من الوقائع وإخفاء التحليل المنهجي للأحداث والعلاقات بينها لفائدة السرد القصصي وجذب الجمهور. ويوضح أنه إذا كانت هذه الرواية لا تفسر شيئا فهي في المقابل تحكي قصة صراع وتعرض التفاعلات بين الهوية الغربية والهوية الإسلامية, حيث يتم فيها تسطيح للوقائع إلي حد كبير. وعند هذا الحد أتصور أنه قد حان الوقت أن يقدم باحثو الشرق وتحديدا في منطقتنا العربية قراءتهم الخاصة بعيون عربية ترصد الواقع وتقدم ما يدور علي الأرض بعيدا عن القراءات السطحية و دونما تعمد لخلط الأوراق أو إسقاط للأحداث وإخلال بتسلسلها لتسويق فكرة بعينها أو اللعب علي أوتار أو التكريس لأفكار تضمن الوصول لقائمة أعلي المبيعات.