لا شك في أن المراحل الانتقالية في حياة الشعوب والدول هي من أكثر المراحل صعوبة وتكلفة أيضا, فالانتقال يعني بحكم التعريف هدم نظام قديم وإحلاله بآخر جديد, والتخلص من القديم لا يتم دفعة واحدة, كما أن بناء الجديد لا يكون سلسا في العادة أو سريعا بصورة كافية تلبي الطموحات الثورية أو تكون علي نفس إيقاعها. ولذا تتسم تلك المراحل بالرمادية. , إذ تحمل ملامح القديم والجديد معا, كما أنها تمتاز بالقلق وضعف الثقة والخشية مما يسمي بالثورة المضادة أو الردة عما تحققه الثورات من إنجازات وأهداف تتعلق بالرغبة في التغيير الجذري لما كان قائما أو سائدا لعقود طويلة. فليس هناك حل سحري تعتمده الشعوب والدول, تنتقل بموجبه من القديم إلي الجديد دفعة واحدة فالأنظمة السلطوية التي تحكم لفترة طويلة تتكون معها شبكة هائلة من المصالح والفساد علي كافة المستويات المالية والإدارية والأمنية, بل وأيضا علي مستوي القوانين والمؤسسات التي غالبا ما يتم ضبطها مع تلك المصالح ففي روسيا علي سبيل المثال التي دخلت تلك المرحلة الانتقالية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي منذ التسعينيات لاتزال تعاني تحديات عملية الانتقال إذ يصعب القول إنها تحولت تماما إلي نظام ديمقراطي أو تخلصت من إرث النظام القديم رغم مرور كل تلك السنوات, بل وشهدت الفترة الأولي صراعات سياسية واجتماعية عنيفة تكتلت فيها عناصر القوي المنتمية إلي النظام السابق لإجهاض عمليات التغيير, والشيء نفسه ينطبق علي كثير من دول شرق ووسط أوروبا التي شهدت تحولا مماثلا من أنظمة شمولية إلي أخري ديمقراطية. وإذا كانت سمات المراحل الانتقالية تتشابه بشكل عام في جميع تجارب العالم فإنها قد تزداد حدة وصعوبة علي مستوي دول الشرق الأوسط وفي مقدمتها التجارب العربية التي لاتزال في مراحلها الأولي للتشكيل ففي حين تكون المطالب السياسية في الحرية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والاحتكام إلي الانتخابات وتحرير الإعلام وغيرها هي واحدة تقريبا في جميع عمليات التحول الديمقراطي, سواء كانت في أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية أو في آسيا أو في العالم العربي والشرق الأوسط عموما, فإن الفارق بين الحالات الأولي والحالة العربية يظل في الصراع حول هوية الدولة التي تبرز في الحالة الاخيرة وتغيب تقريبا في الحالات الخاصة بالمناطق الأخري, فالصراع السياسي والاجتماعي في تلك المناطق تمحور تقريبا بين القوي والاتجاهات الليبرالية ومثيلاتها اليسارية, ولم تكن مسألة الهوية الوطنية أو القومية جزءا منه, أما التحول الديمقراطي في الحالة العربية فيواجه هذا التحدي بقوة وهو ما يعطي خصوصية للمراحل الانتقالية ويكون التحدي فيها أصعب. والحديث عن هوية الدولة يستدعي حالة الصراع الحالي الظاهر أو الكامن بين القوي والتيارات والاتجاهات المدنية العلمانية( ليبرالية أو يسارية) من ناحية وبين غيرها من قوي واتجاهات سياسية اسلامية تصطبغ بصيغة دينية وتسعي لأن تشكل هوية الدولة وفق مرجعيتها الأيديولوجية من ناحية أخري ولاشك في أن ما تشهده الساحة المصرية الآن من تطورات سريعة متلاحقة منذ ثورة52 يناير تعكس خطورة هذا الصراع علي بناء نظام ديمقراطي جديد. فمنذ انفتاح آفاق العمل السياسي بعد الثورة والحديث عن تعديل قانون إنشاء الأحزاب السياسية ليكون بمجرد الإخطار, تصدرت القوي والتيارات الاسلامية تحديدا المشهد. الإخوان المسلمون من جانب يعلنون عن اعتزامهم تشكيل ربما أكثر من حزب, إلي جانب حزب الوسط الاسلامي الذي انتظر طويلا الحصول علي الرخصة القانونية للعمل الشرعي من جانب ثان, والسلفيون الذين حشدوا قواهم بصورة لافتة من جانب ثالث, والقوي الراديكالية ممثلة في الجماعة الاسلامية والجهاد بعد الافراج عن زعيمهم التاريخي عبود الزمر, واعتزامهم تشكيل أكثر من حزب من جانب رابع.. وهكذا. ولم يقتصر الأمر علي ذلك بل استمدت تلك القوي باتجاهاتها المختلفة وربما المتنازعة أيضا كل الشعارات والرموز الدينية للتأثير علي عملية الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في91 مارس الماضي, خاصة في المناطق الريفية أو ما يسمي بهوامش المدن, وهو أمر مرشح لأن يزداد في حال اجراء أي استفتاءات أو انتخابات مقبلة ثم.. وهو الأخطر تزايدت أعمال العنف من قبل بعض ممثلي هذه القوي الذين ينتمون إلي أجنحة أكثر تطرفا ضد الأفراد وبعض الأقباط والكنائس دونما اعتبار للدولة أو لسيادة القانون بل هو الاحتكام إلي فتاوي نوعية واصدار أحكام بموجبها واخيرا تنفيذها بالقوة والسلاح. وإذا كانت بعض القوي والاتجاهات الاسلامية الأكثر اعتدالا رفضت تلك الممارسات الأخيرة, فإن ذلك لا يعني أنه لن يكون هناك صراع حول تحديد هوية الدولة, مستقبلا خاصة مع الدعوة لكتابة دستور جديد. فالتداخل بين الدين والسياسة أو تديين السياسة وتسييس الدين هو إلي الآن أمر مقصور علي التجارب العربية, حيث حسمت تلك القضية في الغرب( أوروبا والولايات المتحدة) وامتدت تلك الثقافة العامة إلي باقي المناطق من أوروبا الشرقية إلي أمريكا اللاتينية وغيرها وبالتالي فليس هناك صراع علي مستوي تحديد هوية الدولة حتي وأن ظلت بعض التوجهات الدينية موجودة علي الساحة السياسية تعبر عنها الأحزاب المعروفة بالديمقراطية المسيحية إلا أنها تتحرك في حدود معروفة لا تنقلب فيها علي الدساتير العلمانية السائدة في دولها ولا علي الدولة المدنية التي ترسخت أركانها والهدف من تلك الحدود هو وضع قواعد عامة لعدم احتكار قوي سياسية أو أيديولوجية للسياسة واقصاؤها لغيرها فضلا عن ضمان استقرار الدولة, وعدم تغيير هويتها وأيديولوجيات شمولية. وهذه بالقطع ليست الحالة في الشرق الأوسط والعالم العربي, ربما باستثناء تركيا فهذه القضية تحديدا تم حسمها في بداية العشرينيات من القرن الماضي مع تجربة كمال الدين أتاتورك بعد إلغاء نظام الخلافة في4291 إلا أن الحديث عن النموذج التركي الآن يركز في الغالب علي جانب واحد وهو المتعلق بنجاح حزب العدالة والتنمية الاسلامي في الحكم, ولكنه يتغافل07 عاما من العلمانية التركية التي حددت هوية الدولة ودستورها دون افتراءات علي الدين( بل هناك مادة في الدستور التركي تشير إلي أن الدين الرسمي هو( الاسلام) ولكن ذلك لم يعن خلطا بين الدين والسياسة بالشكل الذي نشاهده الآن أو مصادرة قوي سياسية بعينها لحرية وحق غيرها في العمل علي قاعدة من التكافؤ والمساواة بحيث تكون البرامج السياسية والأداء هي الحكم علي الأصلح مثلما لا يعني تغيير هوية الدولة التي تحميها المؤسسة العسكرية منذ بداية التجربة وحتي الآن. إن ما تحتاج اليه الديمقراطيات الناشئة في العالم العربي وفي مصر هو حوار مجتمعي فشارك فيه كافة الاتجاهات السياسية, وصولا إلي صيغة توافقية حول هوية الدولة فيجب أن يشعر الجميع بأنهم شركاء في و طن واحد, الليبراليون, والاسلاميون, واليساريون, والناصريون, المسلمون والأقباط وهو ما يجب أن يعكسه ويعبر عنه أي دستور جديد فالحلول الوسط كلها ممكنة في السياسة, والتراضي بين الجميع هو الضامن الوحيد للاستقرار ولانجاح عملية التحول الديمقراطي. إن العقيدة ثابتة والسياسة متغيرة, والدين لا تتم حمايته بنص وضعي من صنع البشر في النهاية سواء كان قانونا أو دستورا. فنظام تركيا العلماني لم يمنع حزب العدالة والتنمية الاسلامي من أن يصل للحكم, ولكن و فق قواعد دستورية لا تجور علي حق الآخرين وتجعله أكثر اعتدالا وقبولا بالوسطية كما أن النظام المسمي بالاسلامي في إيران, في المقابل لم يمنع خروج الآلاف لمعارضته فضلا عن إقصائه لكثير من القوي السياسية الليبرالية وحرمانها من حقها الطبيعي في المشاركة ولم يكن يوما معصوما وكذلك الحال بالنسبة للنظام السوداني الذي لجأ إلي شرعية سياسية اسلامية حفاظا علي بقائه وانتهي به الحال إلي التقسيم بعد انفصال الجنوب المسيحي عنه. إن القبول أو المعارضة لحكم معين يرتبط في النهاية بأدائه فقط وبقدرته علي احتواء الجميع من هنا فإن المطلوب في الفترة الانتقالية الراهنة ليس هو سرعة إنهائها, ولكن بضمان سلامتها ولاشك في أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي تحمل اعباء إدارة هذه المرحلة الانتقالية سيكون قادرا علي استكمالها, حتي وان طالت عن الجدول الزمني الذي حدده في البداية( وهو ستة أشهر) لكي يكون تسليم السلطة آمنا ولتعبر مصر من تلك المرحلة إلي الدولة المدنية المعاصرة التي كانت ومازالت شعار ثورة52 يناير. المزيد من مقالات د . هالة مصطفى