يدور الآن حوار واسع حول شيخ الأزهر, وهل يكون بالتعيين أو بالانتخاب؟ وهذه هي القضية الكبري التي تحظي بأكبر قدر من النقاش, والواقع أني من قراءتي لبعض ما نشر خرجت بانطباع أذكره في بداية هذه الكلمة هو أن شباب التحرير المناضلين كانوا أكثر وعيا بالتطور التاريخي الحادث في كل أنحاء العالم. فقد انتهي إلي غير رجعة إن شاء الله التصور القديم للحكم, وهو أن الحاكم أو المسئول يمتلك البلاد والعباد, مثلما يمتلك الحكمة, وصواب الرؤية التي تصل إلي حد العصمة, لذلك كانت التهاني التي توجه إلي المسئول الكبير في عهد مبارك عندما يتم اختياره لمنصب رفيع تدور حول عبارة التهنئة بالثقة الغالية, ولاشك أن هذا كان ينطلق من التصور المشار إليه. الآن يهنأ المسئول الكبير علي اختياره فقط, ونحن نتمني أن تسود هذه الروح في كل مكان, وتتطور لتصبح اختيارا بالانتخاب, الانتخاب فقط وليس أي تدخل آخر, فالعالم كله تقريبا الآن يحكم من القاعدة, بينما كان الوضع عندنا يتم دائما من القمة إلي أن قامت ثورة52 يناير المباركة, ومن قبلها ثورة تونس, والآن معظم بلدان العالم العربي تنتفض من أجل الحصول علي الحرية والكرامة. فالحرية هي أثمن شيء في هذا الوجود, والقرآن الكريم لو أننا فهمناه حق الفهم يمنح الناس أعلي درجات الحرية, ويكفي أن الدين نفسه غير مفروض علي الناس, قال تعالي: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها... إلخ الآية, فقد ترك الإسلام الحرية كاملة للشخص ليؤمن أو يكفر, وعندما علق علي ذلك توعد الظالمين, واستخدم هذا اللفظ تحديدا ولم يستخدم لفظ الكفر. فالظالمون, سواء كانوا مؤمنين أو كفارا, هم أخطر علي البشر من أي شيء آخر, ولننظر فيما فعله القذافي بشعبه في ليبيا, فقد ظل يتحدث عن الذين انتفضوا من أجل الحرية بأنهم جرذان ويعملون لمصلحة القاعدة, ويتناولون حبوب الهلوسة, وقد توعدهم بأنه سوف يطاردهم ويقتلهم وأهليهم بيتا بيتا, ودارا دارا, وزنقة زنقة, وقد فعل ذلك فعلا, وعندما بدأ التحالف في تطبيق قرار مجلس الأمن بالحظر الجوي لجأ القذافي إلي لغة أخري, وأخذ يتحدث عن الحملة الصليبية ضد الإسلام, وقد رد عليه العلامة الدكتور يوسف القرضاوي بأن من يقتل شعبه لا يمكن أن يتحدث باسم الإسلام, وأن التحالف لم يأت إلا بقرار من جامعة الدول العربية, ثم مجلس الأمن, فالظالم إذن أو الطاغية أخطر علي الإسلام وعلي الحضارة الإنسانية من كل الأشياء المدمرة. ومع أننا عشنا ونعيش لحظات التحول العملاقة هذه في العالم العربي يوما بيوم, وساعة بساعة, ونحس بالفرحة الغامرة للتخلص من الطغاة اللصوص الذين وضعوا مورد العالم العربي في جيوبهم الخاصة, فإن هناك من لازال يؤمن بأفكار الحكم الشمولي وتصوراته, ويتجلي هذا الأمر بصفة خاصة في الجدل الدائر حول تعيين أو انتخاب شيخ الأزهر, فقد نشرت مجلة المصور في عدد الأربعاء9 مارس1102 تحقيقا تحت عنوان من يرشح الإمام؟ من ينتخب الإمام؟, ووضعت علي الغلاف صورة كبيرة بطول المجلة للدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر. كان هذا العنوان مستفزا, ومن المؤكد أنه لم يعجب شباب ثورة52 يناير, ولا كل الناس التي تريد إقامة مجتمع ديمقراطي حقيقي ليس فيه قداسة أو عصمة لأحد, وأن الجميع بشر يصيبون ويخطئون, بمن فيهم شيخ الأزهر نفسه الذي أخذت عليه تصريحاته وفتاواه المؤيدة للنظام الدكتاتوري الفاسد والنهاب حتي اللحظة الأخيرة التي أعلن فيها عن تنحي مبارك ونقل السلطة إلي المجلس العسكري. عنوان تحقيق المصور الذي جاء بعد انتصار الثورة بشهر تقريبا يدل علي أن المجلة مازالت تعيش في الزمن الماضي, فالعنوان يوحي للقارئ بأن شيخ الأزهر شخصية مقدسة, فمن يرشحها ومن ينتخبها فهو أعلي من كل من يرشحون, وأعلي من كل من ينتخبون, ولاشك أن هذا تصور استبدادي دكتاتوري شمولي ويقوم أيضا علي تناقض شديد, لأنه إذا صح أن شيخ الأزهر لا يرشح ولا ينتخب, فإنه لابد أن يعين, ومن يعينه لابد أن يكون هو الدكتاتور الأكبر صاحب القداسة العظمي, فهو الوحيد الذي يحسم هذه المسألة الشائكة, وهكذا نعود مرة أخري إلي منطق الدكتاتور الذي يحق له وحده أن يتحكم فلي كل شيء. ومن العجيب أن ينسي المسئولون في المجلة أن الدكتاتور هو الذي أوصل مصر إلي أن تصبح قريبة جدا من الدولة الفاشلة بكل ما اقترفت يداه من سلب, ونهب, وفساد, وبيع للقطاع العام, وللأراضي والأملاك والعقارات بأبخس الأثمان, وتوزيع ثروة البلاد علي اللصوص والمحظوظين, وغير ذلك من صور الفساد البشعة التي عرف الشعب كل تفاصيلها بعد رحيل الرئيس المخلوع, وهذا هو الشخص الذي عين شيخ الأزهر, فهل هذا هو الصحيح؟ أم أننا بالانتخاب سوف نعيد الأزهر إلي سابق عهده عندما كان الشيخ يختار من هيئة كبار العلماء؟ ومن الأفعال والقرارات الأخيرة للأخ الدكتور أحمد الطيب نعرف أنه مؤمن بعودة هيئة كبار العلماء, ومؤمن بأن يكون شيخ الأزهر بالانتخاب, فلماذا تريدون تغيير أفكار الرجل؟ ولمصلحة من يجري كل هذا؟ فهل هي الحركة المضادة لثورة الشباب العملاقة؟ أم أنها محاولة للعودة بالمجتمع إلي الوراء؟ فيما يتعلق بتحقيق مجلة المصور وجدنا ثلاثة يؤيدون أن يأتي شيخ الأزهر بالانتخاب وهم: الدكتور أحمد عمر هاشم, والدكتور عبدالغفار هلال, والدكتورة آمنة نصر, وكل منهم له أفكاره التي يستند إليها في اختيار هذا الموقف, وقد رفض الانتخاب اثنان هما: الدكتور أحمد السايح.. الذي رأي ضرورة أن يكون منصب شيخ الأزهر بالتعيين, لأن الانتخاب في رأيه يسيء للعلماء ويجعل هناك صراعا بينهم, وهذا لا يجوز بين علماء الدين!! وكأن علماء الدين عجينة مختلفة عن عجينة البشر, ولاشك أن هذا الكلام يجعلنا نطالب في الفترة المقبلة بأن نوضح للناس أنهم سواسية كأسنان المشط, وهذا ما قاله الرسول صلي الله عليه وسلم في خطبة الوداع, وإذا كان هناك من يري أن الرسول قال غير ذلك فليبلغنا به لنرد علي الدكتور أحمد السايح أستاذ العقيدة بجامعة الأزهر. الثاني هو المحامي الكبير رجائي عطية عضو مجمع البحوث الإسلامية.. الذي قال إن الدعوة إلي انتخاب شيخ الأزهر الآن دعوة غير بريئة في ظل الظروف التي تمر بها مصر الآن, والحق أني لا أفهم سر هذا التعليل الغريب؟! فإذا كان الانتخاب الآن غير بريء بالنسبة لشيخ الأزهر فلنوقف كل الانتخابات لأنها جميعا سوف تؤدي أيضا إلي عدم الاستقرار, ولعل الأستاذ رجائي عطية نسي أن يقول: لماذا قامت الثورة إذا كانت سوف تؤثر سلبا في حالة الاستقرار؟!! ومعروف أن مجمع البحوث الإسلامية الذي يرأسه شيخ الأزهر كان يتم تعيين أعضائه البالغ عددهم علي ما أذكر أربعة وخمسين عضوا, ولم يكونوا كلهم من بين أبناء الأزهر, ومن أعجب المواقف التي اتخذها هذا المجمع موافقته العام الماضي علي الفتوي التي قدمها شيخ الأزهر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوي, بأن بناء الجدار الفولاذي حلال, وذلك عندما قرر الفاسد حسني مبارك بناء جدار فولاذي يفصل بين مصر وغزة. إننا أيها السادة نريد أن نتخلص من كل ما يمت بصلة إلي النظام الدكتاتوري الشمولي, نريد مجتمعا جديدا: حرية, وديمقراطية, وعدالة اجتماعية, ومساواة, وسيادة القانون, وغير ذلك مما تتمتع به المجتمعات الحديثة. لا نريد مجتمعا يتحكم فيه فرد واحد, ويقوم علي تراتب السلطة من أعلي لأسفل. كل هذا انتهي بقيام ثورة الشباب المباركة فلا تحاولوا إعادتنا مرة أخري إلي النظام القديم. أنتقل إلي التحقيق الذي نشرته الأستاذة علا مصطفي عامر في ملحق الأهرام شباب التحرير يوم الثلاثاء22 مارس1102 تحت عنوان رياح التغيير طرحت دوره للنقاش: انتخاب الإمام الأكبر هل يحقق استقلال الأزهر؟, ومن هذا العنوان ندرك أن هذا التحقيق يأتي في سياق اللحظة التي نعيشها: حالة التغيير التي تشمل المجتمع المصري برمته, والتحول من نظام دكتاتوري استبدادي إلي نظام ديمقراطي حر, لكن التحقيق يتخوف من مسألة أخري هي استقلال الأزهر وهل يتحقق بالانتخاب؟, أي أن مسألة التعيين غير مطروحة, فالمعقول والمطلوب والموافق للخطة الحاضرة هو الانتخاب, وقد جري التحقيق مع شخصيتين مهمتين هما: الدكتور الأحمدي أبو النور وزير الأوقاف الأسبق, والدكتور عبدالحليم عمر رئيس مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي سابقا. الدكتور الأحمدي طرح فكرة انفصال الأزهر ماديا عن الدولة, وبذلك يكون التبرع والوقف ضروريين لإبعاد الأزهر عن إملاءات القيادة السياسية, والدكتور عبدالحليم رأي أنه لا يمكن انفصال الأزهر ماديا عن الدولة, لكن شخصية الإمام هي التي تحقق استقلال الأزهر, وهناك رأي آخر يبدو أنه أخذ من كتاب للدكتور محمد سلم العوا يركز علي المواقف النبيلة للعلماء المسلمين للجهر بآرائهم السياسية في مواجهة الحاكمين غير مبالين بما وراء ذلك من عواقب. ومع احترامي الشديد لآراء هؤلاء المفكرين العلماء الكبار فإني أري أن آراءهم تصب أيضا في خانة التصور القديم لنظام الحكم, ولا تتفق مع ما جاءت به ثورة52 يناير. فالدكتور الأحمدي يتصور أن الأزهر لابد أن يستقل ماديا لكي يستقل سياسيا, وهذا بلاشك يحيل إلي فكرة أن الحاكم الأوحد أو حكومته هما المالكان لكل شيء, وهذا تصور غير صحيح بالمرة في ظل النظم السياسية, والدساتير الحديثة, فرئيس الدولة موظف مثل أي موظف, يتقاضي راتبه من الدولة, والأزهر مؤسسة مثل أي مؤسسة في الدولة, ومن ثم لا يملك أي شخص مهما علا شأنه أن يقول عليكم أن تتبعوا الدولة لأنكم تأخذون رواتبكم منها, هذا كلام خاطئ, فالدولة ليست ممثلة في أي شخص, والدولة ملك الشعب, والجميع مشتركون في إدارة الدولة والانضواء تحت لوائها بمن في ذلك رئيس الدولة نفسه. إذن فالبحث عن التبرع أو الوقف للصرف علي الأزهر كلام ينبغي ألا يقال الآن بعد أن خطونا خطوة كبيرة نحو إقامة مجتمع ديمقراطي حقيقي. أما كلام الدكتور عبدالحليم عمر عن أن شخصية الإمام هي التي تحقق استقلال الأزهر, فهذا أيضا أصبح شيئا مرفوضا في ظل التطور الحالي. نحن لا نريد أن يكون اعتمادنا علي الشخص أيا كان. نحن نعتمد علي الشعب وضميره النقي, ووعيه الخالص. لا نريد أن نمنح قداسة لأي إنسان. المجتمع الحديث أصبح يعتمد علي إجراءات دقيقة, ومحددة, ومحسوبة, ولم يعد يعتمد علي الأماني, والانطباعات, والأحلام, كذلك فيما يتعلق بكلام الدكتور محمد سليم العوا, نريد أن نلغي تماما مسألة المواقف لأنها لا تتحقق إلا من عدد محدود من البشر. إننا نريد مجتمعا حرا يراقب الحكام والمسئولين الكبار, ويستطيع أن يزيحهم عندما يحيدون عن جادة الطريق.. هذا يحدث الآن في كل أنحاء العالم تقريبا, ولسنا أقل من هذه الشعوب دخولا ومنافسة في مجالات التطور, والحضارة, والتجمع.