الجريمة التي وقعت في قنا عندما قطعت جماعة من الشباب أذن رجل تصادف أنه قبطي, بتهمة أنه يدير وكرا للدعارة, أو يقيم علاقة آثمة مع عاهرة, هي عملية بلطجة وفتونة كاملة المعالم, ويجب التعامل معها بكل قوة وحسم. (1) كل ما أقدم عليه هؤلاء الشباب ليس من الدين في شيء, بمجرد إطلاق اللحية, وارتداء الجلباب والطاقية البيضاء, واستخدام لغة الدين لا يعني أنك أصبحت رجل دين. ثم إن هؤلاء الشباب غير مصرح لهم بممارسة سلطة الضبط القضائي, فهذه السلطة يختص بها رجال الشرطة والنيابة العامة. أضف إلي ما سبق أنهم جعلوا من أنفسهم, خصوما, وقضاة, ومنفذي أحكام, ولم يتح للرجل المسكين أي إمكان للدفاع عن نفسه. هذا المشهد كله هو عملية بلطجة كاملة المعالم تجسدت لحظة تنفيذ الحكم عندما اخترعوا حدا لا وجود له في الدين وقطعوا أذن الرجل! ما هو الإرهاب إن لم يكن هذا الذي جري؟ ما هو الإجرام إن لم يكن هذا الذي جري؟ لقد انتزع هؤلاء البلطجية بأياديهم السيئة سلطة الدولة, وجعلوا من أنفسهم هيئة إنزال قصاص, بالرغم من أن كل الفقهاء يقولون إن هذا هو اختصاص ولي الأمر. والأدهي من كل هذا أن يتواتر أن هذه ليست أول مرة, بل هي ثالث مرة خلال أسبوعين يتم فيها تنفيذ حكم بهذه الطريقة البربرية والهمجية. (2) هذا الموضوع من أوله إلي آخره عملية فتونة تهدد وجود الدولة, أو بالضبط تنسف فكرة الدولة من أساسها, تصور أنك أصبحت وسط جماعة أعطت نفسها حق اتهام, ومحاكمة, وإنزال العقاب بأي شخص دون أن يأذن لها أحد بذلك, ودون أن تكون لها أي صفة أو حيثية تتيح لها هذا؟ في هذه الحالة سوف يصبح علي كل إنسان أن يكون جزءا من جماعة مستعدة لأن تنتقم له من أي جماعة أخري تعرضه لأي مكروه. هذا يعني أن المجتمع سوف يرتد قرونا إلي الوراء, ويختفي من الوجود معني الجماعة المتمدنة, فما حدث في قنا هو بالضبط ما كان يجري منذ مئات السنين قبل عهد الدولة الحديثة التي أسسها محمد علي, وحتي قبل ظهور الجماعة القبلية الكبيرة أو القري. ماذا يعني أن مواطنا مصريا قبطيا أو مسلما قد تعرض لكل هذا؟ كيف يمكن أن يكون هناك صلح أو تصالح في هذه الظروف بين الجلادين أو الفتوات والضحية؟ هذه عملية قهر واضحة, وحتي إذا اضطر الرجل المسكين للتصالح لأنه أضعف من أن يدافع عن حقه, فكيف يمكن للدولة مجسدة في شخص نائب الحاكم العسكري للمنطقة التي وقع فيها هذا الحادث الإجرامي أن يكتفي بالصلح؟ نفهم أن يتنازل الرجل عن حقه المدني في التعويض, وأن يتنازل عن حقه في التعويض عن كل الأضرار الفظيعة التي تعرض لها, لكن أين حق الدولة؟ كيف تتنازل الدولة عن حقها في أن تكون هي وحدها سلطة الضبط والاتهام والمحاكمة وإنزال الأحكام وتنفيذها؟ أليست هذه الجماعة التي فعلت ذلك في هذا الرجل جماعة خارجة علي الدولة, ومتمردة علي سلطتها وتقول: أنا الدولة؟ إن السكوت علي هذا لا يعني إلا أننا نوشك علي التسليم بذبول الدولة المصرية وزوالها. (3) الحادث الفظيع يكشف عن حجم القهر والإذلال والظلم الذي تتعرض له الجماعات البشرية الضعيفة في مجتمعنا, ومن هؤلاء الأقباط الفقراء, فحتي لو كان صاحبنا مخالفا للقانون, ويعمل قوادا, فليس من حق أي إنسان أن ينزل به العقاب, ولكن أن يتوجه إلي السلطات المختصة لكي تتولي هذا الموضوع, هذا هو أصل التمدن والعمران البشري, وليس أن نعيش في مجتمع يضع كل منا يده علي رقبة جاره. هذه الحادثة تجعلنا نسترجع دنيا الفتوات والبلطجية والعاهرات في أدب نجيب محفوظ, فالبشر عنده يبحثون عن الأمان والكرامة والسلام, ولم يتحدث محفوظ عن بلطجي واحد انسحب في سلام, فكلهم خرجوا من الدنيا مقهورين مذلولين مدحورين علي يد من هو أقوي منهم. هذه النقطة تكشف حجم الفارق الضخم بين شباب التحرير, المتحضر, المتعلم, القادر علي الاتصال بالعالم الذي يعيش فيه, وأولئك الشبان في أقصي صعيد مصر الذين يعيشون في عصر ما قبل ظهور الدولة في مصر, ويبين حجم الجهد المطلوب بذله لكي يلحق هؤلاء بالعصر الحديث. [email protected] المزيد من مقالات حازم عبدالرحمن