ما معني ثورة شباب التحرير في ضوء الفكر الإنساني؟ هل كان هؤلاء الشباب الذين قاموا بها من المواطنين الذين كان ينتظر منهم مثل هذا العمل؟ وهل ما حدث في25 يناير الماضي كان مجرد حركة أو انتفاضة أو فوضي أو شغب أم كان ثورة. وهل هناك كتابات مهدت أو أرهصت لهذه الثورة شأن غيرها من الثورات؟ ثم متي تتحول شرعيتها الثورية الي شرعية سياسية؟ وغير ذلك من تساؤلات تتطلب اجابات. في البداية يمكن القول إنه تحدث انتفاضة أو فوضي أو حركة أو شغب.. ولكن كل ذلك ليس ثورة, فالانتفاضة ضد فئة ظالمة ليست ثورة, والفوضي حتي ولو كانت خلاقة, كما ادعت وزيرة خارجية أمريكا السابقه ليست ثورة, والفتنة ومثلها الشغب كثيرا ما يحدثان ولكن بدون ثورة, وانقضاض حاكم علي حاكم آخر كي يتربع علي كرسي سلطانه ليس ثورة, إن كل هذه الأعمال ليست ثورات, إنما الثورات في رأي المفكر اللبناني الدكتور جورج حنا: علم وعمل, تنظيم وتقدم, ثم هي بعد ذلك جهاد واجتهاد ومثابرة مبنية علي هذا العلم والعمل والتنظيم والتقدم. الثورة كما قال عنها فيكتور هيجو: فورة غيظ الحقيقة, والمعني الثوري معني أخلاقي.. ذلك لأن الاحساس بالحق يولد الاحساس بالواجب, وكل ثورة تتقدم الي الأمام هي خير, وكل حركة أو انتفاضة ترجع الي الوراء هي شر, وبتأمل هذا الرأي لهيجو نجد أن هذه الحقيقة التي يشير إليها لا يداخلها دجل أو نفاق أو تزويق أو تنميق أو خداع.. إنها الحقيقة التي تجعل الإنسان الكائن الأعلي بين مخلوقات الله, أو في الحقيقة التي تنفر من طغيان الغريزة علي العقل, أو اعتداء الظلم علي الحق, أو العدالة القانونية الجائرة علي العدالة الاجتماعية العادلة فيتجلي كل هذا النفور في ثورة تجعل العقل يسمو علي الغريزة, والحق يعلو علي الظلم, والعدالة الاجتماعية تتقدم العدالة البشرية غير المنصفة. ثم ما هي هذه الحقيقة التي عندما يفور غيظها في أساسها وواقعها؟ هي تلك الحقيقة التي ترفض أن يكون إنسان ما عبدا لإنسان آخر, أو التي تأبي أن تكون حياة انسان منحة أو منة من إنسان آخر, أو حتي تلك الحقيقة التي تتأبي أن يكون حق شعب بأكمله رهنا بقانون يفرضه عليه إنسان ما توحي له أطماعه بانتزاع حق الغير, أو هي الحقيقة التي لا تقر بأي حال من الأحوال استقرارا يستباح فيه الظلم والاستبداد, هي بالجملة الحقيقة التي ترفض تقسيم البشر الي فئة قليلة تملك كل شيء, وأخري كثيرة لا تملك أي شيء والمعاملة بمقتضي هذا التقسيم, فيبقي الظالم ظالما, والجائع جائعا, والمحتاج محتاجا, وفي المقابل يبقي الغني غنيا, والمتخم بالثروة متخما, وصاحب السلطان له الحق وحده في توزيع الحقوق علي هواه, وتوزيع الحريات بمقتضي قوانين ظالمة يشرعها, أو أنظمة تعسفية يفرضها, أو إقرار قوانين وشرائع تكون وحدها هي الوازع والرادع, والآمر والناهي, والحكم والمتهم.. وهنا يكون عمل الفئة المظلومة ثورة وتقدما وعدلا, وعمل الظالم استبدادا وتعسفا وطغيانا. واذا كانت الثورة هي فورة غيظ الحقيقة كما قال عنها هيجو, فإن كتابات بعض المفكرين الحقيقيين هي التي تفجرها وتجعلها تفور علي اعتبار أن المفكر الحقيقي حامل رسالة, وليس غيره يستطيع أن يلهم المجتمع بما استوحاه من المجتمع.. وفي التاريخ أمثلة تدلنا علي ذلك, لقد قام دانتون وروبسبير وميرابو بالثورة الفرنسية بعد أن مهد لهم الطريق فولتير وروسو وديدرو, وقام لينين ورفاقه بالثورة البلشفية بعد أن مهد لهم الطريق تولستوي ودوستويفسكي وجوركي, وقام جورج واشنطن بالثورة علي الاستعمار الانجليزي بعد أن مهد له طريق النجاح توم بين وبنيامين فرانكلين, وقام عبدالناصر بثورة1952 بعد أن مهد له الطريق طه حسين وكتاباته عن المعذبين في الأرض وتوفيق الحكيم بكتابه عودة الروح, لكن ثورة الشباب في ميدان التحرير لم يمهد لها الطريق أحد وهو ما يميزها عن غيرها من الثورات, لكن هذه الثورة المتميزة السلمية لابد أن تنتهي بهدوء, فلا يمكن أن يعيش الشعب في ثورة مستمرة.. أقول لابد أن تهدأ الأحوال حتي يمكن استثمار النجاح الذي حققته الثورة, وأسلم طريق الي ذلك أن تعمل بنفسها علي التئام الحياة بانقاذها من الدخلاء, بحيث تنتقل الأمة في يسر من الشرعية الثورية الي شرعية الحياة السياسية, وبذلك لا تعيش ثورة الشباب في وجدان وضمائر الناس وانما في حياتهم وأحوالهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.