ما الذي يمكن أن تنتظره من سفينة وسط بحر هائج, ليس لها قائد وبلا بوصلة, وأناس يرتعدون من البرد والخوف, يراقبون مجموعة من الركاب يتصايحون ويتصارعون فيما بينهم علي الإمساك بعجلة القيادة, دون أن يدري أي منهم ما هي الوجهة الصحيحة التي يجب أن تتوجه إليها السفينة؟ والشئ بالشئ يذكر, ماذا تنتظر من مؤسسة أو شركة أو حتي جمعية أهلية لا يعرف أعضاؤها ما هو المطلوب منهم ولا ما هي المرجعية التي يجب أن تحكم تصرفاتهم؟ الاجابة يسيرة في مثل هذه الحالات, إنها الفوضي والصراعات المفتوحة بلا ضوابط والخسارة المؤكدة, ومن ثم الغرق أو الضياع. وإذا كان المصريون بدأوا يشعرون بقيمة الحرية ويمارسون الديمقراطية لتحديد مستقبل بلدهم, فإن الصحفيين في المؤسسات القومية يبدون حائرين زائغي الأبصار بشأن مصير مؤسساتهم في ظل نظام سياسي جديد آخذ في التبلور ومفتوح علي احتمالات عدة. ولكن الأمر المؤكد أن حالة الوصاية السياسية والمعنوية التي كانت قائمة من قبل لم تعد موجودة, ولم تعد مقبولة, ولا يتصور أحد أن هناك من يستطيع في ظل المعطيات الجديدة أن يحاول ممارسة تلك الوصاية بأي شكل كان. وإن حاول فسوف يجد كل صنوف المقاومة والرفض والمعارضة الجارحة. حالة مصر الانتقالية موجودة في كل مكان وفي كل وزارة وفي كل مؤسسة وفي كل جامعة وفي كل صحيفة قومية. وكما يريد المصريون خطة طريق للتحرك من الزمن الانتقالي إلي الزمن المنظم وفق قواعد معروفة, اعتقد أن كل العاملين في المؤسسات الصحفية بحاجة إلي أن يتوصلوا إلي خطة طريق أو بوصلة تحدد وجهتهم في الزمن الجديد قبل أن يتصارعوا علي منصب أو الحصول علي ميزة إضافية أو تحسين وضعهم المالي. إنهم بحاجة إلي حوار داخلي عقلاني هادئ بلا ضجيج أو تخوين أو مشروطيات أو مطالب مبالغ فيها أو إدعاءات بالوطنية مقابل اتهام الآخر بالفساد أو سوء السلوك أو سواد القلب. حوار هدفه الأبرز أن يجيب علي السؤال المركزي ماذا نريد من المؤسسات الصحفية القومية في ظل المعطيات الجديدة؟ ثمة اجابات عديدة يمكن طرحها نظريا, ومنها ما يصلح أن يكون واقعا ومنها عكس ذلك. ولعل التذكير ببعض المبادئ والحقائق قد يساعد في توجيه الحوار المطلوب إلي القضايا الملحة. أول هذه الحقائق أنه من الصعوبة بمكان تجاهل أن المؤسسات الصحفية القومية هي أصل من أصول الدولة المصرية, وهي ملك لكل المصريين وليست ملكا لحكومة بعينها أو لرئيس بذاته. وهي أيضا جزء من التاريخ المصري وحركة التنوير والإبداع والثقافة والوطنية المصرية. وكل تلك الحقائق لا يمكن إنكارها بجرة قلم أو من خلال حملة من صحف منافسة أو بسبب مسئول كبير أخطأ ولم يعد مرغوبا فيه. ويجرنا ذلك إلي الحقيقة الثانية وهي وجوب الفصل ووضع الخطوط بين المؤسسة كصرح إعلامي وفكري وإداري واقتصادي وإعلاني, وبين الأشخاص الذين يديرون المؤسسة في مرحلة زمنية معينة. وهو فصل يساعد علي محاسبة المخطئين إن وجدوا وفي الوقت نفسه الحفاظ علي المؤسسة ككيان مستقل يتضمن حقوق ومصالح كل العاملين وكذلك حقوق المجتمع ككل. وثالثا تمثل المؤسسات الصحفية القومية مدارس مهنية رفيعة لكل منها مذاقه في الرصانة والمصداقية والتوجه الفكري والخبرة التاريخية والرموز الانسانية والقيادات المهنية. وهي مبعث كل الخبرات والكوادر التي قامت علي اكتافها العديد من الصحف الحزبية والمستقلة والخاصة التي يمتلكها رجال أعمال في الظاهر أو في الباطن, وهي مبعث للكثير من البرامج التليفزيونية التي تطيب إليها نفوس المشاهدين في مصر أو في الخارج. ورابعا فهي فاعل أصيل في حركة التنوير المصرية والعربية, وكل ما فيها من مواد يعد وثيقة تاريخية علي حدث أو مشهد أو رمز كبير أو حالة المجتمع ككل في زمن معين. ولهذه الأسباب وغيرها, أتصور أن من الضروري ألا تعالج قضايا هذه الصروح الصحفية والإعلامية بشئ من الخفة أو الاستهانة أو التصريحات العابرة المتغيرة أو الحلول الشفهية المنمقة التي تفتقر إلي مضمون جاد وأصيل. ولهذه الأسباب أيضا تبدو بعض الحلول المطروحة بمثابة تخريب متعمد لأصل معنوي للدولة المصرية. وأشير هنا تحديدا إلي تلك الفكرة التي تدعو إلي بيع هذه الأصول إلي العاملين فيها, عبر توزيع أسهم عليهم. فإذا كان يمكن أن نبيع المبني أو المطبعة أو مخزون الورق والكتب والمطبوعات وسيارات النقل, فكيف لنا أن نبيع التاريخ والتراث الأدبي والمعنوي أو العلامة المميزة للأهرام أو الأخبار أو روز اليوسف أو دار الهلال وباقي العلامات التي تحمل كل منها تاريخا وثقلا معنويا من المستحيل تقديره أو تعويضه. فكيف يمكن مثلا تقدير تاريخ الاهرام ذي136 عاما أو تاريخ روز اليوسف الذي يعود إلي العام1925, او مؤسسة الأخبار ذات65 عاما. إن فكرة بيع المؤسسات الصحفية القومية تماثل تماما من يدعو إلي هدم الهرم الأكبر لكي نبني بأحجاره بيوتا للفقراء, أو لكي نقيم في مكانه حديقة يلعب فيها الأطفال. ثمة حاجة إلي وضع بوصلة للمؤسسات الصحفية تأتي من بين أبنائها أنفسهم وليس من خارجهم, فقد انتهي زمن الوصاية وزمن الهيمنة وزمن الضغوط المختلفة. لكن علي أبناء هذه المؤسسات أن يتفاعلوا مع أنفسهم أولا, وأن يقدموا النموذج في صياغة ميثاق شرف داخلي يحمي مؤسستهم من الانزلاق نحو مجهول يجرف الجميع إلي نفق بلا ضوء وبلا أمل. وقد يقول قائل كيف يمكن إدارة حوار داخلي يضع بوصلة للمستقبل وهناك رؤساء وقيادات صحفية غير مقبولة جماهيريا ولا حتي في داخل مؤسساتها؟ وهو تساؤل سليم من الناحية المنهجية ولا يمكن تجاوزه. ووفقا للمعطيات الظاهرة والمجريات التي فرضها البعض علي حركة المؤسسات الصحفية القومية, فإن البحث عن قيادات صحفية جديدة دون تحديد بوصلة مستقبلية وتوجه واضح لهذه المؤسسات هو السبب في نشوء صراعات مفتعلة وتطلعات بدت في غير محلها, وبجوارها عمليات منهجية لحرق أسماء محتملة وغير محتملة. وقد أدي هذا التوجه المستند إلي اعتبارات شخصية بالأساس إلي إضاعة جهود كبيرة في غير موضعها وإلي التركيز علي فروع الأشياء وليس أصولها, فضلا عن سيادة منطق المؤامرات والحروب الصغيرة. لقد جرت محاولات من قبل بعض الزملاء في تحديد سمات مهنية وشخصية للرؤساء المحتملين, وهو توجه جيد كمبدأ, لكن غلب علي هذه المحاولات محدودية عدد المشاركين فيها, وغلبة المعالجة الانفعالية أحيانا, ونزعة الشخصنة لدي البعض, وقلة الإعلان عنها حتي في داخل المؤسسة نفسها, بينما كان الحرص أكبر علي الإعلام عنها في البرامج التليفزيونية لكسب نقاط في مواجهة أفراد بعينهم. فضلا عن غياب العلاقة الجدلية بين هذه السمات المهنية التي تم تفضيلها وبين مستقبل المؤسسة الصحفية نفسها, وهو الأمر الذي لم يعالج أصلا وبدا غائبا تماما عن الصورة. والمفارقة أن المحصلة صبت في مزيد من التفريق بين أصحاب وزملاء المهنة وبعضهم البعض بدلا من أن تجمعهم من أجل صياغة مصير واحد لا مفر منه. هذه الخبرة وما يصاحبها من تأثير سلبي علي الرصيد العام للصحيفة القومية ذاتها, وما تتعرض له من بعض أبنائها من عمليات تجريف وهدم بوعي أحيانا وبعدم وعي أحيانا أخري, تستدعي من القائمين علي أمر البلاد أن يضعوا الأمور في نصابها الصحيح, وأن يؤخذ القرار الصائب الذي تنتظره الجموع الصحفية والقراء معا. فالتغيير هو التي لا راد لها, وليعبد الطريق أمام زهور جديدة تتفتح, تكون ذات أفق ورؤية ورصانة وقادرة علي حمل المسئولية وعلي الدفاع عن رصيد مهنة عظيمة وأمة ووطن عظيمين. ولندعو جميعا للمغادرين بالسلامة, وللمقيمين الجدد بكل توفيق. وآخر الكلام سلام. المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب