طوال السنوات الإحدي عشر الماضية, كان قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات قطاعا هامشيا بعيدا عن منطقة صنع القرار وجماعة أهل الحل والعقد بالبلاد. ,ومحظورا عليه المشاركة بندية وفاعلية في الغالبية الساحقة من قضايا الوطن المصيرية الشائكة. كما عاني من التغييب شبه الكامل للمعلوماتية وأدواتها عند التفكير في الخطط والمشروعات التنموية الكبري وتنفيذها, بعبارة أخري كان وزن القطاع بين قطاعات الدولة أقرب إلي الوردة التي يضعها النظام أو الحكومة علي الجاكت ليتباهي بها خارجيا أو يتاجر بها سياسيا علي الجماهير في الداخل, والآن وبعد الدور الكبير الذي لعبته الإنترنت في صناعة الثورة, أصبح أمام القطاع فرصة نادرة لكي ينتقل من هامش صنع القرار بالبلاد إلي قلبه, لكن هذه الفرصة ستضيع إذا لم يستفد القطاع من مرحلة الشرعية الثورية الحالية- التي يتم فيها بناء وصياغة للنظام السياسي الجديد للبلاد- ويقدم أداء خلاقا مبدعا تتمازج فيه الأفكار الجديدة والخطط الجريئة مع الضغط المنظم والعقلاني, ليفوز بالمساحة التي يستحقها داخل الدائرة الفعلية لصنع القرار بالنظام السياسي المرتقب, وهو ما يتطلب وضع أجندة تناسب هذه المرحلة القصيرة العمر عظيمة الأثر, التي يمكن اعتبارها مفترق طرق بالنسبة للقطاع, وتصوري أن هذه هي المهمة الأولي للوزير الجديد ومعاونوه وكل من له صلة بالقطاع خلال الأشهر القليلة المقبلة. يدفعنا إلي هذا القول إن الجهد الذي قدمه القطاع خلال السنوات الماضية علي صعيد بناء البنية التحتية المعلوماتية بمختلف أوجهها, قد وضع المجتمع المصري في مهب ثورة المعلومات التي تحولت من منجزات علمية وإبداعات تقنية, إلي حزمة من الأدوات تدير تفاصيل الحياة اليومية ويستحيل عمليا تفادي التعامل معها, فأصبحت أداة تغيير هائلة, انتهت إلي كونها أكبر عنصر في صناعة الثورة, كما وضعت المجتمع المصري وجها لوجه مع مجموعة من الأوضاع العالمية الجديدة, منها الانتقال إلي القيم العالمية بدلا من القيم المحلية, وبروز الثروة الفكرية مقابل الثروة المادية, والتنظيمات والمؤسسات الشبكية العرضية العابرة للتقسيمات الاجتماعية والجغرافية بدلا من الرأسية المحصورة فئويا وإقليميا, والابتكار والاختلاف مقابل التكرار والنمطية, وإنتاج السرعة مقابل إنتاج الوفرة, والإنتاج كثيف المعلومات مقابل الإنتاج كثيف العمالة.. وغيرها. وأمام هذه النقلات الكبري بات من المتعين علي المجتمع المصري التحلي بمجموعة من السمات الجديدة, منها أن يكون لدي المجتمع والدولة عقلا متجددا لديه ما يستحثه علي البحث والمبادرة والإبداع, وتوجهات ورؤي مستقلة ضد التبعية بجميع صنوفها, وأن تعتمد وتقبل وتعي أهمية الاختلاف والتنوع, وأن تعتمد النظرة الكلية والمداخل متعددة الرؤي, وتتبني التوجه المنظومي الذي ينشد الاكتمال, وأن تنتج العلم وتحترمه وتجعل منه أداة لاستيعاب موجات التغيير. وغرس هذه السمات داخل الدولة المصرية الجديدة, يتطلب دور فاعل وواضح للمعلوماتية بمختلف أفرعها علي ساحة صنع القرار في مستوياته العليا, وهنا بالضبط تكمن الفرصة أمام القطاع, ويكمن أيضا التحدي الذي يواجهه, فهذا الوضع يضع علي عاتق القطاع واجب وطني يحتم عليه اقتحام كل الملفات الشائكة التي كان يتصورها بعيدة المنال عنه, والخوض في كل الملفات التي كانت محظورة عليه, وتقديري أن الملف الأهم والمركزي الذي يتعين علي القطاع اقتحامه وفرضه بعقلانية وسماحة وقوة هو ملف إدارة الدولة من الرأس إلي القدم, وليس أقل من ذلك. هنا يتعين أن يتوقف القطاع فورا عن تبني النظرة التي تري أن حدود ملعبه داخل الدولة تتوقف عند السلك والجهاز, وهي المقولة التي سادت خلال السنوات العشر السابقة وتعني أن مهمة القطاع فنية بحتة تنحصر في مد الكابلات وإقامة الشبكات ونشر الأجهزة وتدريب الناس وكفي, ولابد أن يبادر بالتوجه إلي الدولة ودائرة الحكم وصنع القرار برؤية مختلفة, تتجاوز ذلك إلي كيفية إدارة الدولة في المرحلة المقبلة من منظور المعلومات وتكنولوجياتها وأدواتها, رؤية تحدد بوضوح موقع المعلومات وتكنولوجياتها في هرم السلطة والإدارة والتخطيط بالدولة, ولماذا يري القطاع أو يضغط من أجل وضع المعلومات في هذا الموقع بالتحديد, وما الذي ستجنيه البلاد من وراء ذلك, وما الثمن الذي ستدفعه الدولة إذا لم توضع المعلومات وتكنولوجياتها في هذا الموقع داخل هرم السلطة والإدارة. لمزيد من التوضيح أقول أن مهمة القطاع الآن أن يوضح للدولة بطريقة لا لبس فيها كيف يمكن للمعلومات وأدواتها وتكنولوجياتها أن تقودنا إلي وطن متوازن الأداء يتميز بكونه وطنا: شفاف لا مكان فيه لفساد أو احتكار لسلعة أو خدمة أو سلطة. أداؤه كفء تنخفض فيه التكلفة للحدود الدنيا وترتفع فيه الجودة للحدود القصوي. يأخذ من موارده المحدودة أقصي ما يستطيع ويوزعها علي مجالات إنفاقها بأعقل وأعدل وأنسب ما يكون. يفقد أو يهدر من موارده أقل ما يكون, ويعيد توزيع عوائد موارده علي مواطنيه بأعدل ما يكون. يقرأ ويعرف تفاصيل مجتمعه بأصح وأدق ما يكون وأسرع ما يكون. تنساب معلوماته وبياناته فيما بين أطرافه ومواطنيه بدرجة تضمن أن تكون مراكز تفكيره وإدراكه عصرية مستمرة التجدد فعالة القرارات. مؤسساته وهيئاته مترابطة عضويا ولحظيا ويلفها جميعا إطار قوي من الثقة المتبادلة التي تقلل من المنبع أي مظاهر للفرقة أو الاحتقان أو سوء الفهم أو الإحباط غير المبرر في النفوس. بصورة أكثر تحديدا أقول أنه في ظل مرحلة الشرعية الثورة التي يعاد فيها صياغة النظام, يصبح من واجب القطاع أن يطلب صراحة تغيير النهج الإداري الحالي لدي الدولة ومؤسساتها, ليحل محله نهج مختلف, ليس فقط من أجل تمهيد الأرض أمام المعلوماتية كي تمارس دورها الذي نحلم به, بل لكي تتهيأ الفرصة لإصلاحات واسعة النطاق في جميع المسارات التنموية الأخري بالبلاد. وإذا جاز لي أن أسوق مثالا في هذه النقطة فإنني أقول أن النهج الإداري الحالي الذي تدير به الدولة مواردها وخططها ومشروعاتها وما لديها من تمويل يقوم في الغالبية الساحقة من حالاته علي الإدارة بالتراكم وقياس الإنجاز استنادا للخبرة التاريخية السابقة, ومن واجب القطاع أن يطلب نهجا إداريا جديدا للدولة يقوم علي الإدارة بالنتائج وقياس الإنجاز استنادا إلي النجاح في تحقيق هدف بحد ذاته بعيدا عما تم تحقيقه في فترة سابقة. بعبارة أخري.. يركز النهج الإداري الحالي علي الإجابة علي السؤال: ماذا فعلنا وماذا سنفعل؟ وهو السؤال الذي يجعلنا نبحث مثلا عن عدد المدارس التي نريد بناءها, وحينما يتم البناء ينتهي الأمر ويجري تصويره علي أنه نجاح في الأداء ما دام ما تحقق في عام يشكل إضافة قياسا ما تحقق في عام سابق,أما النهج المطلوب فيركز علي السؤال: لماذا نفعل ما نفعله أو سنفعله؟ أي أنه لابد من هدف محدد أولا يبرر ما سنقوم بفعله, ثم معيار للحكم علي الأداء نابع من الهدف ومرتبط به وليس مرتبطا بخبرة سابقة أو أداء سابق. وليس أمام القطاع خيار سوي كسب معركته مع الدولة في هذه النقطة بعد إقناعها بفرض هذا التحول في نهجها الإداري العام, لأن الانتصار في هذه المعركة سيجعل المعلوماتية هي العصب الأساسي المطلوب توافره لكي يطبق هذا النهج بنجاح, وستكون أهم عامل يسمح لهذا النهج الاداري بأن يبرز أفضل وأقوي ما فيه كوسيلة ذات كفاءة في تحقيق حلم الدولة أو الوطن متوازن الأداء, وفي هذه الحالة سيكون القطاع شريكا في اتخاذ القرار لا وردة علي جاكت الدولة. ولكي يقوم القطاع بدوره في تغيير الوطن علي هذا النحو لابد أن يكون لديه إجابات محددة حول سلسلة طويلة من القضايا الشائكة, منها علي سبيل المثال كيفية توظيف البنية التحتية المعلوماتية التي تم بناؤها في إدارة المعلومات الوطنية والقومية بطريقة تخفف هموم المواطن, وتقود إلي وطن متوازن الأداء, والمقصود بالمعلومات القومية هنا هي المعلومات القومية الموضوعة داخل سلسلة طويلة من مخازن البيانات والمعلومات العملاقة المنتشرة في مؤسسات الدولة المختلفة, وبعضها تحول إلي الحالة الرقمية الكاملة وباتت تدعمه بيئة عمل الكترونية لا بأس بها, وبعضها تحول إلي شكل رقمي لكنه يخضع لدورات وبيئات عمل ورقية, وبعضها لا يزال ورقيا بالكامل, لكنها تعاني جميعا من معضلات تعوق توظيفها توظيفا حقيقا ومؤثرا في تطوير الوطن ككل, لعل أقلها أن منتجي ومالكي والمتحكمين في هذا المزيج الضخم من المعلومات والبيانات في الوزارات والهيئات المختلفة يسقطون ما يعتنقونه من أفكار وما اكتسبوه من خبرات ومهارات وما حصلوا عليه من مزايا ومكتسبات وما يعانونه من مشكلات وأزمات علي مستهلكي هذه المعلومات وطالبيها من الجماهير العريضة في طول البلاد وعرضها, حتي أن المشهد يبدو وكأنهم ياخذون بتلابيب الوطن والناس معا, ويضعون الجميع تحت ضغوط لا نهاية لها, ومشكلات لا حصر لها, ومستقبل لا وضوح فيه. أخيرا أقول إنه إذا لم يذهب القطاع إلي الدولة ويضع الصورة علي هذا النحو, فعلي الشعب أن يعرف من الآن أن هذا القطاع ليس بمقدوره إلا أن يكون وردة جاكت لا أكثر, ومن ثم لا يصح أن يخرج منه أحد ليدغدغ مشاعر الجماهير بحديث عن عائدات تصدير بالمليارات وفرص عمل بعشرات الآلاف أو غيره, لأنه حتي لو تحقق كل ذلك, فسيكون أداء لا يحدث نقلة نوعية حقيقية تشارك في تجديد شباب الوطن وتحديد مساره المستقبلي, والخلاصة أن القطاع بوزيره ومسئوليه الآخرين في الوزارة والقطاع الخاص والقطاع الأكاديمي- أمامه الآن أحد أمرين: إما تغيير الرؤية ومستوي الإسهام في التفكير والنضال من أجل المشاركة مع صانعي القرار أو البقاء لعقود قادمة كوردة علي جاكت الدولة.