لكل عصر تحدياته التي تتشكل حسب ثقافة أجياله، وفي عصرنا هذا، عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات حلت بمجتمعنا تغيرات هائلة بسبب التطور الهائل الذي حدث في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الذي له آثار جمة على ثقافة وأخلاقيات مجتمعنا المسلم بل تعدت إلى الفكر السياسي وغيره،سواء بالإيجاب أو بالسلب، فلا يستطيع أحد أن يغفل الإمكانات الرائعة التي تقدمها لنا تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وأيضا لا نستطيع أن نتجاهل الآثار السلبية التي ترتبت على هذا الانفتاح المعلوماتي والإمكانات التكنولوجية خاصة أن مَنْ يمتلكون ويحتكرون هذه الإمكانات يختلفون معنا عقائديا وفكريا، فما يعد عندهم مباحا وعاديًّا نجد له ضوابط أخرى في ديننا الحنيف، وكذلك ثقافة المتلقي وعدم توفر الوعي الكافي للقيام بالانتقائية المعلوماتية لأخذ ما ينفع وترك ما يضر؛ ومن هنا فقد سبب ذلك كله آثارا في المجتمع الإسلامي بكل مستوياته، سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع محليا وعالميا، وكانت ثورة التحرير (25 يناير) هي واحدة من تحديات عصر المعلومات؛ إذ إن ما كان يعتبره الآباء والأمهات لهوًا ودردشةً ها هو قد صنع رأيًا وفكرًا وثورةً في شتى بلدان العالم العربي. إن هذه المتغيرات تدعونا إلى النظر والتمعن في مسألة مهمة هي مسألة الثقافة المتدفقة عبر وسائل الاتصال الحديثة، ومدى أهمية هذه الثقافة الوافدة وتأثيرها سواء بالسلب أو بالإيجاب على أخلاقيات وثقافة مجتمعنا. فالإنترنت هي وسيلة للاتصال؛ إذ يُمكنك عن طريقها إرسال الرسائل ومحاورة الآخرين وعرض أفكارك وآرائك والاطلاع على أفكار الآخرين وآرائهم، فهي وسيلة للتفاعل والتعامل بين الأشخاص والمؤسسات والهيئات المختلفة. وأصبحت هي الملاذ الوحيد للبعض، وتتيح لنا الإنترنت وسائل التواصل المعرفي والفكري مثل الفيس بوك، وغرف الدردشة والتويتر...إلخ. ثقافة عصر الإنترنت لقد صار لزامًا علينا أن نتعلم ما يسمى ب"ثقافة عصر الإنترنت" بالمعنى الواسع للمعرفة إذ إن الإنترنت ستظل عنصرًا مغريًا وجذابًا، وإنها تلتهم وقتًا هائلاً دون عائد يوازي هذا الوقت الذي ينفقه الإنسان فيها ما لم يكن محدد الهدف، ومؤقت المدى ومؤسس ثقافيًّا. إن غياب المعرفة أو الثقافة الواسعة يجعل من الدردشة التي تجري في معظم الغرف الإلكترونية العربية عبارة عن لغو فارغ أو معاكسات، أو شتائم متبادلة، ولا يكون تبادل الحديث نافعًا إلا إذا كانت لدى أطرافه من المعرفة أقدار كافية بحيث يكون النقاش مفيدًا. وأعتقد أن بيننا وبين هذا شوطا كبيرا؛ لأن أغلبنا لم يتزود بالثقافة أو المعرفة الخاصة بذلك، فليست تلك الأمور متاحة في مناهج التعليم النظامي، وليست هي المادة المتوافرة في أغلب برامج الإعلام، ولم تعد القراءة في عصرنا الحاضر –للأسف الشديد- مصدرًا معتبرًا لدى كثير من شبابنا في الحصول على المعلومات، وتداول الأفكار. ثقافة الأسرة.. إعادة صياغة لا بد من إعادة النظر في الاهتمام بعناصر الأسرة المسلمة (الأب - الأم) ومدى حاجتنا إليهما في هذا العصر؛ فالأسرة أولاً هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي التي تغرس لدى الطفل المعايير التي يحكم من خلالها على ما يتلقاه فيما بعد من سائر المؤسسات في المجتمع، فهو حينما يغدو إلى المدرسة ينظر إلى أستاذه نظرةً من خلال ما تلقاه في البيت من تربية، وهو يختار زملاءه في المدرسة من خلال ما نشأته عليه أسرته، ويقيِّم ما يسمع وما يرى من مواقف تقابله في الحياة، من خلال ما غرسته لديه الأسرة، وهنا يكمن دور الأسرة وأهميتها وخطرها في الميدان التربوي. للأب دور مهم جدا في رعاية أولاده؛ لأن كل ولي أمر مسئول أمام الله عز وجل يوم القيامة عن رعيته، وفي ذلك يقول ربنا: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة..."، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: "كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالرجل راعٍ ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها...". وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا في الحديث المتفق عليه "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" والنصوص والآيات كثيرة في هذا المقام؛ فمن هنا يتوجب على الأب أن يهتم بالرعاية الثقافية والأخلاقية لأولاده وخاصة في عصر التحدي المعلوماتي. ومن المعلوم أن مرحلة الطفولة المبكرة مهمة لتنشئة الطفل، ودور الأم فيها أكبر من غيرها، فهي في مرحلة الرضاعة أكثر من يتعامل مع الطفل، ولحكمة عظيمة يريدها الله سبحانه وتعالى يكون طعام الرضيع في هذه المرحلة من ثدي أمه، وليس الأمر فقط تأثيراً طبيًّا أو صحيًّا، وإنما لها آثار نفسية أهمها إشعار الطفل بالحنان والقرب الذي يحتاج إليه، ولهذا يوصي الأطباء الأم أن تحرص على إرضاع الطفل، وأن تحرص على أن تعتني به وتقترب منه لو لم ترضعه كي ترويه من حنانها. فالمقصود أن الأم في هذه المرحلة تتعامل مع الطفل أكثر مما يتعامل معه الأب، وفي هذه المرحلة سوف يكتسب العديد من العادات والمعايير، ويكتسب الخلق والسلوك الذي يصعب تغييره في المستقبل، وهنا تكمن خطورة دور الأم فهي البوابة على هذه المرحلة الخطرة من حياة الطفل فيما بعد؛ ومن هنا فعلى الأم أن تطور نفسها معلوماتيا، وتثقف نفسها جيدا من أجل تربية نشء يستطيع مواكبة ومواجهة تحديات عصر المعلومات. الأكثر من هذا أن بعض الباحثين الغربيين قد ذهب إلى أن الأم عليها أن تجلس في بيتها -بعد أن تحصِّل هذا الكم من المعلومات والثقافة- وذلك من أجل إعداد طفلها ثقافيا لمواكبة تحديات عصر المعلومات. المنظومة التعليمية لا بد من تطوير عناصر المنظومة التعليمية (المتعلم-المعلم-مناهج التعليم)كي تواكب العصر الذي نعيش فيه وتدرك أبعاد التحدث الثقافي الذي يواجهنا كي نستطيع أن نتقبل تلك الثقافة الوافدة تقبلا إيجابيا لا سلبيا؛ فنأخذ ما يفيدنا ونترك ما لا يفيد وتتوفر عندنا ملكة الانتقاء الثقافي والنقد البناء. لقد صار المتعلم في ظل تعليم الأعداد الغفيرة مجرد ظاهرة إحصائية، فليس هناك من الوسائل والوقت لرعاية مواهبه وتنمية قدراته الشخصية، ولا أمل في أن تغير التربية في مجتمعنا العربي فلسفتها الراسخة بين يوم وليلة، وسيمضي وقت طويل، قبل أن تنبت الثقافة العميقة والمتسعة في تربتنا التربوية المتصحرة؛ لذا فإن التوجه على محورية المتعلم، لا بد أن تتوزع مسئولية تنفيذه بين المنزل والمدرسة والتلميذ نفسه، وعلى علماء علم النفس التربوي لدينا، أن يدلوا بدلوهم في حل هذه المعضلة، من حيث تنمية نزعة الاعتماد على الذات، وتخليص عقول تلاميذنا مما خلفته آفة التلقي السلبي والتبعية العمياء. ومعظم معلمينا ما زالوا عازفين عن المشاركة الإيجابية في توجيه مسار العملية التربوية، ونادراً ما يدعون إلى المشاركة في القرارات الخاصة بالتعليم، وموقف معلمينا من استخدام تكنولوجيا المعلومات في مجال التعليم ما زال مشوباً بالغموض، البعض يرى فيها منافساً خطيراً، والبعض الآخر غير موقن بفاعليتها، إما بسبب الثقافة التربوية السائدة وإما لنقص التدريب، وإما لعدم توافر المعدات والبرامج، وقد أصبح تعلم الكمبيوتر في معظم مدارسنا، مقصوراً على القائمين بتدريس مادته، وصار الكومبيوتر سجينا لغرفته بالمدرسة يوضع عليها باب من حديد وتحرس لأنها عهدة!! إن المعلم يجب أن يتعلم هو نفسه استخدام تكنولوجيا المعلومات ويثقف نفسه جيدًا، قبل أن نطالبه بالتدريس باستخدام الكومبيوتر. ولا بد من تطوير منهجيات وخطط التعليم، إنه من الصعب استيراد منهجيات التعليم لشدة ارتباطها، سواء بالبيئة التعليمية أو بقدرات المعلم القائم بتطبيقها؛ وعندما حاول البعض ذلك أضروا بالتعليم وفرغوه من مضمونه؛ لذا فنحن في أمس الحاجة إلى تطوير البحوث التربوية لتناول أثر تكنولوجيا التعليم والإنترنت على منهجيات التعليم، وكيفية تطويعها للثقافة السائدة، وللبيئة التربوية المتوافرة، ولقدرات المعلم وقدرات من نقوم بتعليمهم، ومن الخطورة بمكان تطبيق المنهجيات الجديدة -ومعظمها مستحدث- دون تجريب واختيار دقيق، ومرة أخرى، يمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تلعب دوراً في هذا المضمار، حيث نوفر بيئة اختيار فعالة لتجريب المناهج الجديدة، مع سرعة الحصول على النتائج. وفي النهاية لا بد من إعادة ناء المنظومة الأخلاقية ومدها بالثقافة الخالصة المستنيرة التي تأخذ بأيدي أبنائها إلى التقدم انطلاقًا من مقدساتنا وانتماءاتنا وفكرنا الأصيل. المزيد من مقالات جمال عبد الناصر