شهور قليلة وتنتهي الفترة الانتقالية, مع انتهائها ستنسحب القوات المسلحة من الشارع بافتراض جاهزية الشرطة وسيعود الجيش الي مهمته الأساسية في الدفاع عن الوطن وتأمين مصالحه العليا, التفكير في لحظة تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة وعودة الجيش الي ثكناته يثير الكثير من الأسئلة, فهل الجيش المصري. مستعد لترك المجال السياسي تماما للمدنيين؟ وهل القوي السياسية المدنية مستعدة وجاهزة للقيام بمسئوليات الحكم منفردة؟ وهل نظامنا السياسي الديمقراطي الذي مازال تحت الانشاء, وبلا تقاليد ديمقراطية يستند اليها, ولا ثقافة ديمقراطية مستقرة يمكنه كبح جماح التطرف والنوازع الاستبدادية عميقة الجذور؟ لدي شكوك في جاهزية القوي السياسية المصرية لممارسة الحكم بشكل مستقر خال من الأزمات, ومرجع ذلك هو حداثة عهدنا بالديمقراطية, ونوعية الطبقة السياسية الموجودة في بلادنا, رغم التحسن الكبير الذي سيطر عليها بعد الدماء الجديدة التي أخذت في التدفق في عروقها منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير, فالساحة السياسية المصرية, وهو ماأظن أنه سيظهر لنا جليا في انتخابات مجلس الشعب القادمة والانتخابات التي تليها, ستميل للاتسام بدرجة عالية من التفتت السياسي بين قوي سياسية متعددة, بعضها قديم وبعضها الآخر جديد ولد من رحم الثورة, كما ستتسم ايضا بثقل وأهمية العناصر المستقلة بسبب حداثة التكوينات الحزبية, وبعد انفراط عقد حزب الدولة الذي كان يجمع تحت مظلته جماعات مصالح محلية حرصت علي الحصول علي نصيبها من موارد الدولة عبر الارتباط بالحزب الحاكم. إذا صح هذا التصور فانه قد يكون من الصعب علي مصر في المرحلة المقبلة توفير أسس حكم ديمقراطي مستقر, وقد تظهر الحاجة لقيام الجيش بدور سياسي لضمان حد أدني من الاستقرار السياسي, ولتحصين الأمن الوطني ومصالح البلاد العليا من مخاطر التفتت السياسي. طبيعة الدور السياسي المتصور للجيش يمكن تخيله عند محاولة الإجابة علي أسئلة من نوعية, ما اذا كانت العقيدة الدفاعية للجيش المصري ستخضع لمناقشة مفتوحة من مجلس شعب منقسم وفي حضور وسائل اعلام لها مالها وعليها ماعليها؟ وما اذا كانت صفقات التسلح اللازمة للجيش المصري ستخضع للمناقشة في مجلس الشعب؟ وما هي الطريقة التي سيكون ممكنا من خلالها للجيش نقل مخاوفه للسياسيين المدنيين اذا أدت تطورات السياسة الي نشوء أوضاع تهدد الاستقرار بشكل جسيم. لقد مرت علاقة الجيش المصري بالسياسة منذ مطلع الخمسينيات في القرن الماضي بعدة مراحل فقد حكم الجيش البلاد بشكل منفرد أولا, ثم بشراكة, والأصح بتنافس مع العسكريين الذي تحولوا الي قادة شبه مدنيين ثانيا, المرحلة الأولي امتدت حتي تم انتخاب جمال عبد الناصر رئيسا لأول مرة في شهر يوليو من عام1956 فخلع ومعه رفاق له من الضباط الأحرار الزي العسكري, وتم حل مجلس قيادة الثورة, واستقال أعضاؤه من الجيش, خلال هذه المرحلة القصيرة كان الجيش يحكم بنفسه وبدرجة عالية من الوحدة والانسجام بين قادته العديدين, أما في المرحلة التالية فقد ظهر تقسيم أدوار, تطور الي تنافس وصراع بين القادة السياسيين رغم خلفيتهم العسكرية, وبين الجيش, وهو التنافس الذي كان الصراع بين الرئيس والمشير أهم تجلياته. شغل الصراع بين الرئيس الذي أصبح مدنيا, والمشير رفيق الكفاح والعضو الوحيد من مجلس قيادة الثورة الذي احتفظ بمنصبه العسكري, الفترة التي امتدت حتي حرب يونيو,1967 وربما لم تكن الهزيمة ومن قبلها فشل الوحدة مع سوريا ليحدثا لولا هذا الصراع, ومن مفارقات القدر وسخرياته ان هزيمة يونيو أتاحت للقيادة السياسية الفرصة لاعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية, فانسحب الجيش من السياسة, وتفرغ لأداء مهمة الدفاع عن الوطن, فاستقرت صيغة جديدة قبل فيها الجيش الخضوع للقيادة المدنية. لقد سهلت الخلفية العسكرية للقيادة السياسية, خاصة لرئيس الجمهورية, طوال السنوات المنقضية منذ حرب يونيو الانتقال الي هذه الصيغة, وتدريجيا تراجع الجيش الي خلفية المشهد السياسي, فبينما تجنب التدخل المباشر والصريح في السياسة, فإنه ظل واقفا عند الأفق للتحوط ضد ماقد يحدث من تهديدات للأمن الوطني في ساحة السياسة الداخلية, ومقدما الدعم للسلطات الشرعية التي يخضع لقيادتها عندما تحتاجه وتطلبه, وهو ماحدث في عامي1977 و1986 عندما أنقذ الجيش البلاد من فتن هددت السلم الأهلي. ثورة الخامس والعشرين من يناير, وعجز السياسيين والأمنيين عن احتواء ثورة الغضب التي انتهت بانفراط عقد جهاز الشرطة, أجبرت الجيش علي احتلال مقدمة المشهد السياسي, بشكل تدريجي أولا, ثم بشكل صريح بعد أن سلم الرئيس السلطة للجيش بعد إجباره علي التنحي, والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو ما إذا كان ممكنا للجيش الانسحاب من مقدمة المشهد السياسي في نهاية المرحلة الانتقالية؟ وما اذا كان ممكنا له التخلي عن أي دور سياسي وراء المرحلة الانتقالية؟ أم انه سيعود الي موقف المراقبة عن بعد الذي التزم به طوال السنوات السابقة؟ لا أتصور أن الانسحاب الكامل للجيش من السياسة أمر ممكن, ولا أتصور أيضا إمكانية عودته لحالة المراقبة عن بعد, بل إنني لا أحبذ العودة لهذه الحالة. فدور القوات المسلحة وفقا لهذه الصيغة لم يكن منصوصا عليه دستوريا أو قانونيا بأي شكل, وإنما هي صيغة تطورت تدريجيا, وساهم في صياغتها اجتهادات وطبائع شخصية, وتطورت عن الذات لكثيرين من القادة العسكريين والمسئولين السياسيين, وهو ما لايمكن القبول به في نظام ديمقراطي جديد نسعي ليكون محكوما بشكل كامل بنصوص القانون والدستور. علي الجانب الآخر فإن السيطرة الكاملة لقيادة مدنية منتخبة علي شئون الدفاع والجيش في ديمقراطية ناشئة أمر غير متصور حدوثه, خاصة في حالتنا التي لعب فيها الجيش دورا رئيسيا في حماية البلاد من الفوضي وفي سد فراغ السياسة والشرعية بعد ان كادت الطبقة السياسية حكومة ومعارضة- دون مساواة في حجم المسئولية- تقود البلاد إلي كارثة الفوضي, في نفس الوقت فإن إبقاء كافة شئون الدفاع والجيش خارج نطاق سلطات حكومة منتخبة ديمقراطية هو امر يتعارض مع مباديء الديمقراطية, ويمكن له أن يتسبب في تعريض الديمقراطية لخطر جدي, وحتي إذا اخترنا هذا البديل, فإنه في مجتمع الدستور والقانون الذي نسعي لبنائه سيكون علينا أن نصيغ الحصانة الممنوحة للجيش في نصوص دستورية وقانونية, ولا أظن أننا مستعدون لذلك, الأمر الذي يتركنا مرة أخري أسري لصيغ اجتهادية تخلق مساحة جديدة من المسكوت عنه, وهي المساحة التي لن يكون من الممكن حمايتها وابقاؤها مسكوتا عنها في ظل ازدهار حرية وأدوات التعبير الخارج عن أي سيطرة. المجلس الأعلي للأمن للقومي الذي يأتي ثلث أعضائه علي الأقل من بين العسكريين هو الحل الذي اقترحه لهذه القضية, فإلي جانب العسكريين الذين يمثلون المناصب القيادية الرئيسية في الجيش, يجلس في هذا المجلس المنصوص عليه دستوريا أصحاب مناصب سياسية رفيعة مثل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الشعب ورئيس لجنة الدفاع في المجلس, ووزراء الداخلية والمالية ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات, مجلس مثل هذا يمكن له أن يمثل حلا لإشكالية العلاقة بين المدني والعسكري في نظامنا الديمقراطي الناشئ, ويمكن له أن يقوم بدور المؤسسة المخولة بمناقشة شئون الأمن الوطني والدفاع والجيش بعيدا عن الحياة البرلمانية والاعلام الصاخب, لكن دون ان يكون بعيدا عن سلطة ودور السياسيين المدنيين المنتخبين من جانب الشعب. المجلس الأعلي للأمن القومي يمكن له أن يكون صيغة مثالية لطمأنة فئات في المجتمع لديها تخوفات من تغول فئات أخري عبر الآليات الديمقراطية, والجيش المصري مؤهل للقيام بهذا الدور في اطار هذه الصيغة, فالجيش المصري ليس جيشا ايديولوجيا, لكنه جيش ذو عقيدة وثقافة وطنية تتمثل العناصر الأصيلة في الثقافة المصرية بمكوناتها الوطنية والعروبية والإسلامية, وهو جيش غير متحزب وغير طبقي, تأتي عناصره وقياداته من الخزان الثقافي المصري في ريف مصر وحضرها دون تمييز, وهو لكل هذا يستحق مكانة خاصة في نظامنا السياسي الذي يجب ان يعكس ظروف الديمقراطية الناشئة في بلادنا بعيدا عن محاولات نسخ وتكرار نماذج وخبرات بلاد أخري.