(1) اتصالات لا تنتهي من أصدقاء عرب يهنئون بما جري, الكل سعيد ومنفعل.. والكل غير قادر علي إخفاء مدي دهشته وهو يضمر السؤال: كيف قام المصريون, وهم الشعب المسالم الصبور أبدا, المنهك, بكرامته المنقوصة وكبريائه الجريحة... كيف أبدعوا هذه الثورة الجسور.. بهذا المستوي من الاداء المبدع, وهذا التحضر, والتأنق الغضوب غير المسبوق الذي أدهش العالم, كيف فعل هؤلاء الناس ما فعلوا, علي غير توقع من أحد؟ والأصدقاء من الكتاب العرب هؤلاء وغيرهم مشغولون بالبحث عن إجابة لمثل هذا السؤال, فهو بالنسبة للكثيرين ممن لا يعرفون هذا الشعب ولا ثقافته العريقة, هو السؤال المعضلة, وصديقتنا الكاتبة اللبنانية دلال البزري, وهي إحدي العارفات بطبيعة هذه الثقافة المصرية, راحت تبحث في جريدة المستقبل عن اجابة, وهو البحث الذي قادها, عبر التأمل والمعايشة, إلي أن هذا الشعب نفسه ذا الصفات السلبية التي لا تحصي, بدا في أيام الثورة شعبا اخر. بين ليلة وضحاها, قفز من حالة العنف والتواكل والتفكك الي حالة نقيض وهي في تري أن الشعب, في العهد الماضي, كان التوتر والعنف محرك الطاقات, وأن هذه الطاقات, وكلها فردية, كانت تتوجه نحو بعضها, لا نحو شيء مشترك, أو هدف أعلي, أو مرغوب, أما في الميدان, فبدا وكأن طاقة إيجابية جبارة محمولة علي أمل مشترك, مفتوحة علي الاحتمالات, خارجة عن الأنانيات, انتزعت المبادرة من السلطة القائمة, تأطرت تلقائيا نحو هدفها.. فولد شعب اخر عرف كيف يتوحد ويتجمع وينظم نفسه بنفسه. وهي بهذا الكلام تقترب من تشخيص الحالة تماما, أنظر قولها: إن الثورة المصرية بينت كم أن الشعب ذاته يمكن أن يكون بخلاف ما اعتاد أن يكون, عندما يفسح له التاريخ الفرصة ليبادر بنفسه, ويقرر بنفسه( وضع من فضلك خطا تحت الكلمات التالية) فما بالك وأن هذا الشعب ذو مخزون ألفي من السرديات والتجذر ومعرفة استثنائية بأصول شظف العيش ومترتباته؟ مخزون كان مرميا في اللاوعي الجمعي, مهملا, ميئوسا من انبعاثه.. فجرته هذه الثورة, فكان الشغف الشعبي بها. والسؤال الآن: وما الذي فجر هذا المخزون الألفي من السرديات؟ لا بأس من المغامرة بإجابة. (2) لو انك ممن ينشغلون طيلة الوقت بحكاية القصص والروايات, فلن تستطيع أبدا أن تتابع حدثا حتي لو كان في حجم ثورة كبيرة, إلا ووجدت نفسك مشغولا بالبحث عن نسق سردي لما تعايشه, فالسرد وسيلة معرفة... لأن السرد هو ما يمنح الأشياء شكلا, وهذه مسألة مهمة لأن الشيء, أي شيء, من دون شكل, لا معني له. والمصريون أبدعوا, علي مرأي من الدنيا كلها واحدة من أكبر ملاحم التاريخ وتابعها العالم مؤيدا ومأخوذا من هذه الملايين التي سعت بكل هذه الجسارة وهذه الإرادة من أجل استعادة الكرامة والكبرياء والتحرر, هذه الملحمة كانت لها, بالطبع بدايات. وهي راحت تنتشر وتتقدم بكل ما فيها من تفاعلات وصراعات من دون أن تفقد اتجاهها أبدا. منتقلة من مرحلة الي أخري, مطورة من أهدافها حتي صارت جسدا كبيرا حيا ترامت أطرافه صعدا نحو ذروة أخيرة, لينحني هذا الخط الدرامي الصاعد فجأة ويتراخي مع خطاب أخير لرئيس يستجدي التشبث بموقعه, وما اعقب ذلك من مشاعر يأس وإحباط, وهي حالة درامية بامتياز لأن التوتر لا يطول حتي تشرق الذروة الأخيرة بجملتين ألقيا لحسن الحظ, بصورة دراماتيكية, تخلي بهما عن منصبه, ذلك هو البناء السردي, المثالي, لملحمة عظمي, وكاملة. هكذا أضيئت السماء وزعردت الدنيا كلها. (3) الذين صنعوا هذه الثورة من الشباب هم طلائع طبقة وسطي مصرية جديدة, بعدما انتهي أمر القديمة لأسباب لا تخفي علي أحد, وهم مؤهلون شأن كل طبقة وسطي مستنيرة, لقيادة الوطن والترقي به, وهم لم يقودوا الناس لأنهم عثروا فقط علي أدوات اتصال جديدة, ولكن لأنهم. وهو الجوهري في كل ما جري, عثروا علي النغمة الصحيحة, وهي التي تجاوبت معها الملايين وتحركت بها حتي صاغت هذه الثورة التي صارت جزءا من تاريخ العالم وضميره. مصر لم تتغير هكذا فجأة, مصر استعادت ما كانت جديرة به. [email protected]