آن الأوان لتحديد المهام الملحة للثورة المصرية, التي فجرها الشباب واحتضنها الشعب وحماها الجيش, من أجل كرامة المصريين وتقدم مصر. وقد رأيت أن تحقيق شعار الثورة' الشعب يريد إسقاط النظام' ورفع الثوار شعار' الشعب يريد بناء نظام جديد', يعني تحقيق مهام تتلخص في كلمات: المواطنة والتقدم والعدالة والريادة. وقد أوجزت في المقال السابق أن المهام الملحة أمام الثورة المصرية تعني: أولا, بناء نظام سياسي ديمقراطي يرتكز الي سيادة القانون, وإقامة دولة مدنية غير عسكرية وغير دينية بدءا من تعديل الدستور القائم, ثم إقرار دستور جديد, بما يحمي ودون انتقاص حقوق المواطنة, شاملة الحقوق والحريات والواجبات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وثانيا: التقدم الشامل بإقامة نظام اقتصاد اجتماعي, يرتكز الي قيم اقتصاد سوق إجتماعية, متقدم ومنضبط, يجمع بين ضرورات الكفاءة الاقتصادية ومقتضيات العدالة الاجتماعية. وثالثا: إعادة الاعتبار للمشروع القومي بتصنيع مصر وإنجازه وفق معايير اقتصاد المعرفة, باعتبار أن الانضمام الي عالم الدول الصناعية لا بديل له لتحقيق تقدم مصر الاقتصادي والاجتماعي وحماية أمنها القومي والإنساني. ورابعا: إعلاء مكانة ودور مصر عربيا وإقليميا وعالميا, بتقديم مثال يحتذي للشعوب العربية, وتعظيم قدرتها علي فرض السلام العادل والشامل في اقليمها, واستعادة دورها في بناء الحضارة الإنسانية. وأسجل هنا, أولا, أن تصنيع مصر لا يزال مشروعها القومي, كما كتبت تحت هذا العنوان بجريدة الأهرام في6 نوفمبر.2005 وقد أوضحت في المقال المذكور أن مشروع تصنيع مصر بقيادة الدولة كان في قلب معارك محمد علي للإستقلال بمصر عن الامبراطورية العثمانية, وذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وكان المشروع الثاني لتصنيع مصر باعتباره ركيزة للاستقلال الاقتصادي, من ثم مقدمة لتوفير أسباب الإستقلال السياسي, بمبادرة بنك مصر تحت قيادة طلعت حرب مؤسس البنك ورائد التصنيع الرأسمالي الوطني في النصف الأول من القرن العشرين. وأما المشروع الثالث لتصنيع مصر فقد كان في قلب المعارك التاريخية لتحقيق الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي معا, التي خاضتها ثورة يوليو بقيادة جمال عبد الناصر, وذلك في النصف الأول من القرن العشرين. ورغم انجازات المشروعات الثلاثه التاريخية الكبري لتصنيع مصر فقد كان الاخفاق مآلها, بسبب عوامل خارجية وداخلية, أوجزتها في مقالي المذكور. وثانيا: أن تصنيع مصر, وركيزته التعليم, لايزال المهمة التاريخية, الحاضرة الغائبة, علي جدول أعمال الأمة, والمشروع القومي الذي يمثل أحد أهم مجالات بناء الإجماع الوطني المصري في صياغة برامج أحزاب مصر الجديدة, وخلق التيار الرئيسي للتقدم المنشود في عقب ثورة25 يناير. وقد بينت في المقال المذكور عشية الانتخابات البرلمانية لعام2005 إن ا تصنيع مصر ليس مجرد تنمية صناعية ونمو للصناعة, وإنما يعني تحول الاقتصاد المصري تحولا نوعيا, من حال الي حال, تصبح فيه مصر عضوا في النادي المرموق للبلدان الصناعية المتقدمة, وهو ما يغيب عن البرنامج الانتخابي البرلماني للحزب الوطني الديمقراطي, الذي تجنب قاموسه التعامل مع مفهوم التصنيعب. وأضفت أنه في ضوء خبرة قرنين من صحوات وانجازات وكبوات وإخفاقات تصنيع مصر, ينبغي إدراك أنه إذا أردنا أن تتوافر للمصريين حياة لائقة, ولمصر مكانة مرموقة, ينبغي أن تكون قضية تصنيع مصر محورا رئيسيا للحوار الوطني. وحتي لا ينتكس هذا المشروع القومي مجددا, ينبغي بناء اجماع وطني حول التصنيع, يعززه ذات الإجماع حول قضايا حاسمة التأثير علي مصير التصنيع; وفي مقدمتها قيم وأهداف الديمقراطية السياسية وحقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية, والاهم تعزيز اجماع وطني حول قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية بما يقطع الطريق علي إستهداف مصر ووأد مشروع تصنيعها من الخارج, كما جري وتكرر طوال قرنين. وثالثا, أن علي شباب الثورة المصرية إدراك أن مصر لن تصبح دولة متقدمة بمجرد تحقيق معدل مرتفع للنمو الاقتصادي; حتي وإن استدام هذا النمو ربع قرن من الزمان! وإنما يتحقق تقدم مصر فقط بتحولها إلي دولة صناعية. باختصار, لأن التقدم منذ فجر الثورة الصناعية وحتي عصر العولمة الاقتصادية لم يتحقق في أي مكان بغير التصنيع; رافعة النمو المتواصل للإنتاجية والتصدير والتشغيل. ولهذا, كما أضفت في مقالي حتمية تصنيع مصر, المنشور بجريدة الأهرام في29 يونيو2008, فإن الدول الصناعية دون غيرها هي التي تصنف باعتبارها الدول المتقدمة. ويعلم الكافة أن الدول الصناعية المتقدمة هي التي تتمتع بالقوة الاقتصادية والشاملة التي تمكنها من الإنفراد بإدارة شئون العالم الاقتصادية وغير الإقتصادية في اتجاهات تتوافق مع مصالحها وقيمها, والدول الصناعية الجديدة والصاعدة خاصة الآسيوية هي التي تمكنت دون غيرها من أن تفرض نفسها شريكا مؤثرا في إدارة العولمة! وبفضل التصنيع بمفهومه الواسع, أي بفضل تطوير وتعميق وارتقاء الصناعة التحويلية ونشر ثمار التحديث الصناعي التكنولوجي في بقية قطاعات الاقتصاد, لا تعد الدول الصناعية هي المصدر الأهم فقط للسلع المصنعة, وبالذات منتجاتها ومكوناتها ذات المحتوي المعرفي الأرقي والقيمة المضافة الأعلي, بل صارت المصدر الرئيسي للمعرفة والتكنولوجيا والخدمات والغذاء والاستثمار! ورابعا, إن حسم خيار التصنيع يتوقف بداية علي أن يتحرر صانعو القرار وقادة الفكر السياسي الاقتصادي من أسر النظريات المشككة في إمكانية تصنيع مصر, إذ يراها من لا يثق في قدراتها عاجزة عن خوض اماراثونب التصنيع! وتتأكد حتمية تصنيع مصر إذا سلمنا بقيود المياه والأرض علي فرص التنمية الزراعية الأفقية واستحالة رفع إنتاجية الزراعة المصرية بغير مدخلات التقدم الصناعي التكنولوجي, وإذا أدركنا حدود ومخاطر الاعتماد علي مصادر الدخل الريعية المتقلبة مثل العوائد البترولية أو إيراد قناة السويس أو الدخل السياحي أو تحويلات المهاجرين...إلخ, وأخيرا إذا إنطلقنا من بديهية أن تعظيم القيمة المضافة من الثروة البترولية مرهون بتطوير الصناعات البتروكيماوية في حلقاتها الأرقي, وأن مضاعفة القيمة المضافة للسياحة الواعدة دون شك تتوقف علي ما يتيحه التصنيع من إنتاج محلي لكل مستلزماتها من المدخلات المصنعة! ولكن كما أوضحت في مقال حتمية تصنيع مصر, فانه بدون إستراتيجية للتصنيع لن تعزز مصر أمنها القومي بتملك القدرة الصناعية والتكنولوجية, ومن ثم القوة الاقتصادية والشاملة, اللازمة لحماية مصالحها وقيمها وتعزيز مكانتها ودورها. ولن يتمتع المصريون بأمنهم الإنساني, فيتحرروا من الحاجة والفقر والخوف من المستقبل, إلا بفضل ما تتيحه عملية التصنيع من وظائف غير محدودة ومرتفعة الإنتاجية, تؤمن لهم عملا لائقا ودخلا عاليا وحياة كريمة مديدة بصحة جيدة. وأخيرا, إن قدرات مصر الكامنة تسمح لها دون جدال بانجاز التصنيع وبلوغ ما تستحقه: أن تصبح دولة صناعية! ويكشف انبهار العالم بثورة25 يناير أن صورة مصر, جيشا وشعبا وشبابا, قد ارتفعت مجددا الي عنان السماء, إذ عادت الي ذاكرة العالم صورة مصر, مبدعة الحضارة وفجر الضمير, وقد نهضت مجددا مبدعة وملهمة, كما جري طوال تاريخها الألفي كلما تصور البعض أنه لن تقوم لها قائمة! وبغير نسيان واجب الدفاع عن الأهداف المباشرة للثورة, أثق في أنه بقدر ما يتحقق الاستقرار باعلان كامل خريطة الطريق والجدول الزمني لتحقيق تلك الأهداف, وبقدر ما يعود المصريون الي مضاعفة الانتاج ورفع الانتاجية ودأبهم المعهود في بناء الحضارة, فإن مصر الثورة ملهمة العالم قادرة علي جذب الاستثمار العربي والأجنبي, وجذب العقول والخبرات المصرية المهاجرة, وخلق مناخ موات للاستثمار الوطني, الخاص والعام, لتحقيق مشروعها للتصنيع والتقدم, وفق مقتضيات عصر المعرفة الذي استخدم شباب الثورة أدواته, والعدالة الاجتماعية التي تتطلع اليها الأمة. ويبقي القول إن التقدم علي الطريق الطويل والشاق لتحقيق المهام الملحة أمام الثورة المصرية, ورافعتها التعليم والتصنيع, هو السبيل الوحيد للريادة الحقة, وبقوة المثال, التي تستحقها مصر دون ريب! المزيد من مقالات د. طه عبد العليم