لما طال المرض بجدنا, وألزمه البيت, عرف أنه مرض الموت. لم يعد من المقبول أن يخفي الوصية التي شغله التفكير فيها, وإعدادها, خلال سني حياته الأخيرة. كان جدي جالسا في مدخل دكانه, أول شارع السكة الجديدة, لما سمع هاتفا يدعوه إلي الصحو من غفلته. أدرك دنو الموت, أزمع أن يترك الدنيا, ويتجه إلي الحياة الآخرة بأداء الفرائض, والتمسك بالزهد والورع. ترك الدكان لأكبر أبنائه, ولازم العبادة, تمني أن يموت مصليا, أو حاجا, أو منصرفا إلي قراءة القرآن. تردد في آخر أيامه إلي الشيوخ والفقهاء والعلماء, لازم مجلس إمام جامع نصر الدين في فقه الدين, عني بحفظ القرآن الكريم, ومعظم صحيح البخاري, وقرأ كتب الفقه علي المذاهب الأربعة, وجود في القراءات, ودرس الأصول والفرض, وقرأ شرح ألفية ابن مالك. عندما أحكمت فكرة اقتراب الأجل سيطرتها عليه, فرغ إلي نفسه يكتب وصيته, أغلق عليه باب حجرته, لايأذن حتي لأمنا بالدخول يوما كاملا, نهاره وليله, يكتب أسماء من يذهب إليهم الميراث, قال إنه جعل الأزواج أبناء عمومة وخؤولة, فلايرثه الغرباء, رسم بقلم رصاص خيوطا متوازية ومتقاطعة, صنعت لما وضع القلم خطا رئيسا, يتفرع منه مايشبه الأغصان والأوراق. عرفنا أنه رسم شجرة العائلة, أضاف إلي المعني سؤاله عن أسماء الحفدة الذين ولدوا حديثا, أو أنهم ولدوا في مدن أخري. قال عمي مهران إن جدنا الهادي كان يهييء نفسه في الأيام الأخيرة لما يبدو أنها رحلة طويلة, أو غياب يصمت عن مدته. روي أنه لما أحس بدبيب الموت, أرسل في طلب الشيخ عبدالقادر الدجوي إمام جامع البوصيري, وكانت بينهما صداقة, وأسرار تقتصر عليهما. لم يسلمه الوصية, وإن دله عليها, هي في قلعة قايتباي, مدسوسة بين حجرين, رسم مايسهل وصول الشيخ عبدالقادر إلي موضع الوصية, صندوق خشبي صغير, أغلق عليه الوصية وحدها, لايفتح, ولاتفض الوصية, ورقة واحدة مطوية, إلا بعد أن يفارق حياتنا, كتبت سطورها بخط يد الجد الذي نعرفه جيدا, ومن المستحيل تقليده. وعد الشيخ الدجوي أن يودع الأوراق مكتب حسين طايل بشارع محرم بك. قال إنه حصل علي النصة لموكليه في كل القضايا التي تولاها. نفي الشيخ ماروي عن وجود الوصية في حوزة خالي زاهر, وأن جدنا الهادي سلمه الوصية لتقتصر علي صغري الأبناء, حفظ الرجل الوصية لها حتي تكبر. رفضوا تزويج أمها عائشة لقاسم وهيدي تاجر المانيفاتورة بشارع الميدان, تنجب الأبناء فيؤول الميراث إلي عائلة أخري غير عائلتهم. فرضت التخمينات نفسها علي جلساتنا في القاعة التحتية, نتابع زيارات الأطباء وعلماء الدين وشيوخ الطرق والدراويش. كان أكثر إلحاح جدنا في طلب الحاج طه السبيلي حلاق الصحة علي ناصية شارع السيالة من ناحية ميدان أبوالعباس, يثق في قدرته علي الشفاء بما يعجز عنه الأطباء. تساءل خالي زاهر: لماذا لايرثه الأبناء في حياته. وقال: يحصل كل واحد علي نصيبه, أجدي من توقعات الشقاق بين الورثة إن وجدوا في الوصية مايرفض الاتفاق. ثم وهو يهز إصبعه: إذا لم يعدل أبونا في وصيته, فإني أخشي نشوء عداوات لاتنتهي. ثني إليه عمي مهران ملامح متسائلة: ما العدل الذي تراه مناسبا؟ الشرع.. التقسيم حسب الشرع! أشار عمي مهران إلي دفع جدي أولاده في تجارته, همه أن تكون التجارة لأبنائه من الذكور, من صلبه ودمه, يبكون علي ماله, يعنون به, يرث تركته الذكور دون الإناث. وشوح بيده: العجوز حر في ماله.. يفعل به مايشاء. أبطأ خالي زاهر في نطق الكلمات: لماذا استن الحجر إذن؟! ..... أظهر الجميع تلهفا بعد وفاة جدي علي معرفة الطريقة التي وزع بها الميراث. قال عمي مهران إن خلافة الوارث لما يملكه موروثه من أموال وعقارات وأراض ومتعلقات شخصية, لادخل فيها لإرادة الوارث, ولا لإرادة الموروث, إنما ثبت للوارث بحكم الشرع, وتؤول بها ملكية النصيب الموروث, بصرف النظر ما إذا وافق الوارث خلافة المرء في دنياه تختلف عن الخلافة في الشأن الصوفي, خليفة الولي معروف في حياته, ولايخلفه سواه, هو شيخ الطريقة, وراعيها, وصاحب الكلمة النافذة. خمن خالي زاهر أن جدي الهادي ربما اشترط أن يقتصر الميراث علي الذكور دون الإناث, من تريد حقها فإنها تعقد علي ذكر من العائلة, تتصل أوراقها بأغسان الشجرة. قال: التساوي بين الأبناء واجب شرعي. أرجع رفض عمي مهران لميراث الإناث, أنه سيجعل جزءا من المال يخرج من تركته. لو أن جزءا من التركة ذهب إلي غريب, فسينفرط هذا ماقدره عقد الأسرة, عقد العائلة. إذا رفض جدي الهادي توريث البنات, هل يستثني عمتي عائشة؟ وأغمض عمي مهران عينيه متصعبا:, من المستحيل أن نعرف مايخفيه أبونا! تلاقت الدعوات في أن يرث الأبناء جدي في حياته, يحصل كل واحد علي نصيبه, أجدي من توقعات الشقاق بين الورثة إن وجدوا في الوصية مايرفض الاتفاق. أقعد المرض جدي. لم يعد يغادر حجرته, حتي الطعام والوضوء, ومايحتاج إليه, كان نسوة البيت يوفرنه له, فلايترك موضعه. ثم انتقل بتأثيرات المرض أو نقله عمي مهران إلي السرير في غرفته بالطابق الأرضي, كان قد اختارها لإقامته بعد أن أدركه الوهن. لها شباك حديدي يطل علي مقام سيدي نصر الدين. كان عمي يشاهد جدي الهادي يتجه بعينيه ناحية شباك الغرفة, ويتكلم بما لم يتبينه جيدا, إنما هي كلمات غير متصلة, التقط منها:' الوصية, التركة, الصندوق, الورقة, القلعة, الأحفاد. فسر عمي مارأي بأن صلة ما, قائمة, بين جدي الهادي وسيدي نصر الدين. طالت الأيام. بدت حياة جدي معلقة لم تشهد تحسنا, ولاطرأ عليها ماينهي الانتظار, شمعة تضاءلت ذؤابتها, توشك أن تنطفيء, دون هبة هواء. لما أغلق جدي عينيه, وفتحهما, انفرجت شفتاه, وارتعشتا, حدسنا أنه يتهيأ للرحيل, يوشك أن يمتص شهيقه الأخير, ثم يسكن الجسد تماما. اقتعد أبناؤه وحفدته الأرض, لصف الجدران, ينتظرون شهقة ماقبل الرحيل, أو ماقد يسبقها من كلمات تضيف إلي الوصية, تلطف من التأثيرات المتوقعة فيما لو فرضته الطبيعة الإنسانية تأثيراتها, فينسي الابن أباه, وينسي الحفيد جده. قرأ المحامي الوصية. لم يستقبل بحجة ضيق المكتب سوي القلة من الأعمام والأخوال, تبعهم الكثير من الأبناء والحفدة, تعطلت, بتزاحمهم حركة المرور في شارع محرم بك والشوارع الجانبية, إلي ميدان المحطة. نصح جدي الهادي أن يكون أبناؤه وذريتهم متساوين, فلا تفاقم الضغائن والأحقاد ما ظهر في حياة العائلة, وثبتت ملامحه. جعل لكل نصيب, لم يحذف, ولم يضف, كلهم أبناؤه وحفدته, للمرأة مثل حظ الذكر, للصغير مثل الكبير, مايعنيه أن التركة ينبغي أن تؤول إلي مستحقيها, ومن يستحقونها لابد أن يدركوا الحلقة الأولي في السلسلة, هم يرثون من بذل حياته, وترك لهم ماادخره يعينهم علي أعباء الحياة. هدد أبناءه وأحفاده إن أنكروا وصيته, لايعملون بما جعله شرطا للوصية, قال إن خروجهم عن الشرط, سيتبعه اختفاء التركة من أيديهم, لن تظل التركة في حوزة من ينسي الشرط. قال المحامي للنظرات المتسائلة: شرط الجد أن تذكروه دائما! وفرد الأوراق ليراها الجميع: هذه وصية جدكم, لايحل لكم الميراث ما لم تعملوا بها. ونقر بقلمه علي المكتب: لن يحصل الورثة علي أنصبتهم من الوصية ما لم تنفذ كما أوصي الجد. تبادلنا نظرات الدهشة لقول الرجل إن الجد الهادي جعل تذكر الأبناء والحفدة له شرطا كي يحصلوا علي إيراد الميراث, من ينسي فإن محامي التركة يمنع نصيبه. قال عمي مهران: كيف ننسي جدنا ونحن نعيش في خيره؟ قال عمي عبدالسميع: قد تتذكر الخير وتنسي مصدره! قال خالي زاهر: شرطه هذا يدفعنا إلي تذكره دوما! قال وائل ابن خالي زاهر: لو إننا نسيناه.. كيف يعرف؟ قال الأسطي طه السبيلي: مات جدكم علي مكاشفات وكرامات, وهو يستطيع الرؤية والفعل من داخل ضريحه. روي الكثيرون أنهم التقوا الشيخ عبدالقادر الدجوي في شارع الميدان, قال من خلال ابتسامته الهادئة: جدكم يثق من وفائكم لوصيته! شغلنا الأمر. تمنينا لو أننا نسينا لنعيش حياتنا, دون قلق أو خوف. تبدلت أحوالنا, نحرص أن نذكر اسم جدي الهادي في مناقشاتنا, يتناثر اسمه علي ألسنتنا ونحن نركب البلانسات في عرض البحر, عند جلوسنا علي الكورنيش الحجري, في الموالد والجلوات وحلقات الذكر, وأثناء تناول الطعام, والفرجة علي التليفزيون, وقبل أن نخلو لزوجاتنا. تضمه الأسئلة والأجوبة, والملاحظات, واستعادة الماضي, ومناقشة أوضاع زماننا, وتدبر المستقبل. تتملكنا الخشية من أن يبلغ جدي صمتنا عن ذكر اسمه, يرفع مدده عن أبنائه وحفدته, يواجهون مالايعرفون, ويعجزون عن تصوره. ربما تعمد أحدنا تناسي الاسم, يختار اللحظة التي يجب أن تكون الكلمات مرادفة للاسم فيهمله, يتلفت في اللحظة التالية حوله, يخشي أذي الجد لأنه أهمل وصيته. حين امتلأت نفوسنا بما نعجز عن تحمله, دعا عمي مهران إلي لقاء يضم الجميع في بيت جدي. تقاطر أعمامي وأخوالي وأبناؤهم علي بيت جدي. ضاقت بهم القاعة, جلسوا علي السلالم الخشبية, المفضية إلي الطابق الأول, استندوا علي الدرابزين المعدني, الدائري. يلي باب المدخل قاعة, تتوسطها فسيقة ساكنة, وعلي جانبيه ست حجرات متقابلة. في الواجهة سلم يفضي إلي الطابق الأعلي, إلي جانبه قاعة واسعة أزيح مابها من طسوت وأزيار وكراسي خشبية صغيرة. في المدخل الأيمن حجرة صغيرة مغلقة, كأنها ليست من البيت, نهمل نثارات سوداء علي بابها, ربما كانت دماء تبدل لونها بمضي السنين, قيل إن جدنا الهادي كان يزج في الحجرة أبناءه, ويعاقبهم علي الأفعال الخاطئة. طالب عمي مهران أن يأخذ كل واحد مايجد فيه فائدة. إذا أراد اثنان أو ثلاثة الشيء نفسه يلجأون إلي الأكبر سنا, يقرر الأولي بالحصول عليها, أو يوزعها بالتساوي. وقال عمي مهران إن الوصية تجوز بكل المال, أو بعضه, لاتقتصر علي الثلث. قال وائل ابن خالي زاهر: لماذا لانسقط هذا الشرط الغريب ونتقاسم التركة بالتراضي؟.. وقال عمي عبدالسميع: هل نخالف وصية جدنا؟ قال عمي مهران: ماقيمة الوصية إن لم تنفذ؟ قال خالي زاهر: الوصية التي تخالف الشرع لاقيمة لها. هذه أمواله, هو حر فيها. نحن أبناؤه, من حقنا أن نرثه بما شرعه الله! تعالت الأسئلة والأجوبة والآراء والملاحظات والنصائح والتوبيخات والاتهامات المتبادلة. اختلطت الأصوات فغاب المعني المحدد. ارتفع صوت خالي زاهر بما أسكت تلاغظ الأصوات: من حق الجد أن نتذكره بعد رحيله: وداخلت صوته نبرة متسائلة: لكننا لن نتذكر إلا الصور التي خلفها في حياتنا؟ امتدت المناقشات, طال الأخذ والرد: هل يخشي الجد نسيان اسم الهادي, أم نسيان أقواله وأفعاله؟ لو أن المعني في الاسم, فلابد أن يستعيد الأحفاد في الأجيال المتعاقبة مايذكرهم باسم الهادي. لكل عائلة لقب, ولقب عائلتنا الهادي, اسم الجد نفسه, هو في الذاكرة بالضرورة. أما طلب الجد تذكر أقواله وتصرفاته وماحلفه, فإن النسيان ربما أفضل من التذكر. رويت وقائع, وجد فيها أعمامي وأخوالي ماينبغي إهماله, رأوا أنها لاتعبر عن السيرة الحقيقية للجد الهادي.