أرسي الإسلام مبادئ التعايش السلمي وأسس الوئام والعدل والتسامح في التعامل مع غير المسلمين في ظل المجتمع الإسلامي, فالدولة الإسلامية قامت علي أساس المواطنة دون تمييز بالدين أو العرق. والإسلام جاء لإحقاق الحق, وإقامة العدل, وإرساء قواعده,وإخراج الإنسان عن الظلم, فالعدل يمثل دعامة وطيدة وصفة أصيلة للشريعة الإسلامية,حيث أمرت بأن يكون الحكم بالعدل,ولو علي المخالف, فقال تعالي:'ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي'(المائدة:8). بل يجب تحري العدل ولو كان ضد النفس,حيث يقول سبحانه:(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم أو الوالدين والأقربين)(النساء:135), وفي ذلك يقول الرسول صلي الله عليه وسلم:'وايم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها'(سنن النسائي74/8). كما أكد الإسلام أن المساواة سمة من سماته, وأصل من أصوله,فهو يقرر أن الناس سواسية, وفي ظله تتلاشي الفوارق, وتزول كل الاعتبارات عدا التقوي, فلا تفاضل بينهم في إنسانيتهم, قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في خطبة الوداع:' ياأيها الناس,إن ربكم واحد,وإن أباكم واحد,ألا لا فضل لعربي علي عجمي,ولا لعجمي علي عربي, ولا لأحمر علي أسود, ولا أسود علي أحمر إلا بالتقوي,إن أكرمكم عند الله أتقاكم'(مسند أحمد411/5). وفي ظل دولة المدينة التي أسسها رسول الله صلي الله عليه وسلم أكد علي قيمة العدل بين فئات المجتمع علي اختلاف أعراقهم وأديانهم,حتي إن الرسول تعامل بالعدل والإحسان مع غير المسلمين في المدينة وقد كانوا أقلية فلم يؤثر أن رسول الله أو أحدا من أصحابه تعرض إليهم بسوء أو اضطهاد أو تضييق أو تمييز. ومن تأكيد الإسلام علي قيمة العدل وترسيخ المساواة بين المسلمين وغير المسلمين, أن أنزل الله عز وجل قرآنا في واقعة تبين مدي عدالة الإسلام وحسن معاملته للآخر,فحين حاول بعض الصحابة في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يتستر علي سارق مسلم,وأن يفوت العقاب عليه, وأن يقدم شخصا آخر يهوديا ليعاقب مكانه, أنزل الله ثماني آيات في سورة النساء تدافع عن حق اليهودي, وتحث علي إظهار العدالة,فقال تعالي:( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) إلي قوله تعالي:( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا)( النساء:105-112). وفي سبب نزول هذه الآيات يقول قتادة ابن النعمان: كان بنو أبيرق رهطا من بني ظفر,وكانوا أهل فقر وحاجة في الجاهلية والإسلام,وكان عمي رفاعة بن زيد رجلا موسرا أدركه الإسلام, فابتاع رفاعة حملين من شعير فجعلهما في علية له,وكان في عليته درعان له وما يصلحهما من آلتهما,فطرقه بشير أحد بني أبيرق من الليل فخرق العلية من ظهرها فأخذ الطعام ثم أخذ السلاح,فلما أصبح عمي بعث إلي فأتيته, فقال: أغير علينا هذه الليلة فذهب بطعامنا وسلاحنا, فقال بشير وإخوته: والله ما صاحب متاعكم إلا لبيد بن سهل لرجل منا كان ذا حسب وصلاح فلما بلغه,قال: أصلت السيف أي أشهره ثم قال:أي بني الأبيرق أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن من صاحب هذه السرقة, فقالوا: انصرف عنا فوالله إنك لبريء من هذه السرقة, فقال: كلا وقد زعمتم. ثم سألنا في الدار وتحسسنا حتي قيل لنا: والله لقد استوقد بنو أبيرق الليلة وما نراه إلا علي طعامكم,فما زلنا حتي كدنا نستيقن أنهم أصحابه, فجئت رسول الله صلي الله عليه وسلم فكلمته فيهم, فقلت: يارسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء وسفه غدوا علي عمي فخرقوا علية له من ظهرها فعدوا علي طعام وسلاح,فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه وأما السلاح فليرده علينا,فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:'سأنظر في ذلك',وكان لهم ابن عم يقال له أسير بن عروة,فجمع رجال قومه ثم أتي رسول الله صلي الله عليه وسلم,فقال:إن رفاعة بن زيد وابن أخيه قتادة بن النعمان قد عمدا إلي أهل بيت منا أهل حسب وشرف وصلاح يأبنونهم أي يتهمونهم بالقبيح ويأبنونهم بالسرقة بغير بينة ولا شهادة, فوضع عند رسول الله صلي الله عليه وسلم بلسانه ما شاء ثم انصرف,وجئت رسول الله صلي الله عليه وسلم وكلمته فجبهني جبها شديدا وقال:'بئس ما صنعت وبئس ما مشيت فيه,عمدت إلي أهل بيت منكم أهل حسب وصلاح ترميهم بالسرقة وتأبنهم فيها بغير بينة ولا تثبت' فسمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم ما أكره, فانصرفت عنه ولوددت أني خرجت من مالي ولم أكلمه,فلما أن رجعت إلي الدار أرسل إلي عمي: يا ابن أخي ما صنعت؟ فقلت:والله لوددت أني خرجت من مالي ولم أكلم رسول الله صلي الله عليه وسلم فيه,وايم الله لا أعود إليه أبدا.فقال:الله المستعان,فنزل القرآن:( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) أي بني أبيرق,فقرأ حتي بلغ:( ثم يرم به بريئا) أي لبيد بن سهل... وتلا تلك القصة قوله سبحانه:( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم) يعني أسير بن عروة وأصحابه.(سنن الترمذي244/5). إن هذه الواقعة بثبوتها في القرآن وبيانها في السيرة والسنة النبوية مثال صريح وتطبيق قاطع لقيمتي العدل والمساواة في الإسلام, وهي مما يساعد في نشر وتعميق روح المواطنة بين أبناء الوطن الواحد; إذ الإنسان دائما يسعي إلي الإنصاف والعدالة والمساواة, ويرغب في أن يحيا في ظل دولة تحقق تلك القيم النبيلة بين فئات المجتمع وطوائفه.