في أواخر سبعينيات القرن العشرين عرفني صديق علي رجل في العقد الرابع من عمره, يمتلك صالون حلاقة بمنطقة جليم بالإسكندرية ويعمل فيه بمفرده, وقد انتظمت في التردد عليه عدة مرات, طلبت منه بعدها أن يشتري أدوات كاملة خاصة بي للحلاقة ويحضر لي إلي منزلي مرة كل أسبوعين إذا أمكن ذلك وقد قدمت له هذا العرض الذي وافق عليه بترحاب, بعد ملاحظتي الدائمة لأدبه الشديد ورقي تعامله ونظافته الفائقة في نفسه ومكانه, ومر حوالي ثلاثون عاما وطبائع وسمات هذا الرجل أصيلة وثابتة كالمعادن النفيسة لا تتغير, يأتي ويذهب في صمت وقور مع قسمات وجه مطمئنة دائما ومبهجة, وبدأت استجيب لذلك الفضول الذي يفرض تساؤلا بداخلي ظل عشرات السنين كي اتعرف علي تلك المثالية, كيف صنعت, وما هي الاطر التي تربي عليها؟ وبدأت اخترق حاجز الهدوء والصمت الذي يتمتع بهما ضمن سماته وطلبت منه أن يتحدث عن نفسه كيف نشأ وتعلم؟ وبكل براءة وتلقائية بدأ الحديث الذي يحمل في كلماته أمانة وصدقا, وبلا أي مبالغة. نشأ الصبي في أسرة بسيطة تحترم الحياة, وقد أرسله والده وهو في السابعة من عمره إلي صالون مصطفي ملوك للحلاقة بشارع التتويج بحي بحري, بعد حصوله علي تزكية من شيخ الحلاقين لكي يقبل الأسطي الكبير الطفل محمد صبيا تحت التمرين في الصالون, وقد أحضر والد محمد للأسطي دكر بط هدية في أول يوم لوصوله إلي التدريب, ولقد كان الصالون اسما علي مسمي, حيث يتكون من عدة مقاعد جلد فاخرة في داخل المكان علي شكل صالون, يلتقي فيه الصفوة من طبقات المجتمع, أبناء الحي للمناقشة والتحدث في أمور عامة وخاصة في انتظار دورهم في الحلاقة, وكانت جميع اصدارات الصحف والمجلات اليومية والأسبوعية موجودة علي مائدة وسط الصالون ليتصفحها من يريد, ويتكون فريق الأسطوات العاملين من أربعة, يتم تعيينهم بعد ترشيحهم من شيخ الحلاقين, الذي يقوم باحضار مجموعة من راغبي العمل وذوي الخبرة ليجلسوا علي القهوة المجاورة, ويرسل واحدا إلي الحاج مصطفي ملوك الذي يقوم بتجربته أولا, وإذا فشل في الامتحان أرسل غيره من المنتظرين علي القهوة وهكذا, حتي يتم الاستقرار علي أفضلهم, ثم يقوم شيخ الحلاقين باعلان النتيجة عليهم ليبدأ استلامه للعمل براتب قدره ثلاثة جنيهات, وكان يوم الجمعة من الساعة السابعة وحتي العاشرة صباحا, هو يوم الامتحان, حيث إن تلك الفترة من كل أسبوع كانت محددة للحلاقة المجانية للبوابين والفراشين ومختلف الطبقات البسيطة, بدون أي مقابل, وكذلك في تلك الفترة كانت تجري مراحل التعليم للصبية الصغار تمهيدا لانتقالهم إلي لقب مساعد أسطي ثم أسطي بعد ذلك, وكان الصبية لا يتقاضون مرتبا كالأسطوات ولكن يعملون بالبقشيش الذي يتم تجميعه في حصالة, لا تفتح إلا قبل الأعياد والمناسبات, حيث يتم من حصيلتها شراء ملابس العيد وكذلك شراء طاقم جديد في بداية الصيف وآخر في بداية الشتاء, وكان الصبي المتدرب إذا أحدث إصابة لأحد الزبائن رواد اليوم المجانيأثناء التدريب يتم خصم قرش صاغ من حصته في الحصالة, ويدفع فورا هذا القرش إلي المصاب كتعويض واعتذار عن اصابته, وكان تدريب الصبية علي حلاقة الذقن, يتم باحضار بالونة ويتم نفخها جيدا ثم يقوم الأسطي بوضع صابون الحلاقة عليها, ويأتي المتدرب ليقوم بنزع الصابون بموس الحلاقة الحاد وكأنها ذقن الزبون من علي سطح البالونة وإذا فرقعت يتم خصم قرش صاغ من حصته في البقشيش, وإذا تكرر الخطأ ثلاث مرات يتم استبعاده من العمل وكانت الست حميدة زوجة الأسطي مصطفي ملوك هي ابنة أخ الشاعر والزجال العظيم بيرم التونسي, تقوم بعمل الغذاء يوميا للأسطوات الأربعة, والأربعة صبية, والذي يتم احضاره علي صينية كبيرة ليقوموا جميعا بالغذاء داخل الصالون ومعهم الحاج مصطفي في الساعة الثانية ظهر كل يوم, ولقد كان بيرم التونسي يحضر بسيارته الشيفورليه لزيارة ابنة أخيه وأسرتها كل أسبوعين علي الأكثر وفي جميع المناسبات والأعياد, ومعه عدة شنط مصنوعة من الورق المقوي, ومكتوب عليها زوزو مملوءة بالفواكه وبعد كل زيارة كانت الست حميدة ترسل إلي الصالون أطباقا من هذه الخيرات للأسطوات والصبيان, ولقد كان الأسطي مصطفي ملوك بوسامته, وهو يرتدي البدلة والكرافتة والبالطو الأبيض النظيف له مهابة ويمتلك شخصية قوية, ومحبوبة من أهل الحي, عندما يحضر محصل النور أو المياه خلال فترتي الصباح ليأخذ استحقاقات الشركة من سكان المنزل الذي يقع أسفله الصالون كان الأسطي مصطفي يدفع له قيمة كل الايصالات الخاصة بجميع السكان, حتي لا يصعد إلي الشقق أثناء وجود الرجال في أعمالهم بعيدا عن المنزل, وعندما يأتي موعدهم في الحلاقة يعطي لكل منهم الايصال الخاص به, وغالبا ما كان يرفض أن يأخذ ما قام بدفعه للمحصل, ولقد كان يحافظ علي تقليد لا يتغير, حيث يظل الصالون يعمل في ليلة عيد الاضحي وعيد الفطر, ويقوم بشراء طعمية بخمسين قرشا الواحدة كبيرة الحجم بمليم وحوالي مائة رغيف عيش بلدي وبعشرة قروش طرشي, ويقوم بإطعام كل من يتردد أو يمر أمام الصالون, وذلك بدءا من الثانية صباحا وحتي قبيل صلاة العيد, حيث يهرع جميع الأسطوات والصبية إلي منازلهم ويرتدوا ثياب العيد الجديدة ليلحقوا بالحاج مصطفي بالمسجد لصلاة العيد, ولقد كانت تقاليد التربية طوال العام لا تنفصل عن التدين, فإذا نودي للصلاة يذهب اثنان فقط من الأسطوات واثنان من الصبية للصلاة في المسجد ويظل الباقون بالصالون, ويتبادلون الأدوار عند صلاة الفروض التالية, فالعمل أيضا صلاة باستثناء يوم الجمعة فالجميع يذهبون إلي المسجد, ويتم إغلاق الصالون أثناء إقامة شعائر الصلاة, ولقد كان للأسطي مصطفي تقليد أسبوعي لا ينقطع, بعد اشرافه علي فترة التدريب التي تقام أثناء الحلاقة المجانية يوم الجمعة. ونعود إلي الأسطي محمد الذي نجح في عمله وتفوق حتي أصبح من أمهر الأسطوات, لدرجة أن بعض الزبائن كانوا يحرصون علي الانتظار لكي يقوم هو بالحلاقة لهم, ولما ذاع صيته في تلك المهنة, أتاه عرض من صاحب صالون حلاقة شهير يعرض عليه مرتبا شهريا قدره خمسة جنيهات وكان هذا المقابل مغريا حيث إن الوصول اليه في مكانه كان يستعرض عدة سنوات أخري ولكن الصراع بين هذا الإغراء والولاء والانتماء لصالون الحاج مصطفي الذي علمه ورباه علي كل المستويات لم يحسم لصالح غواية النفس التي أفرزت حلا جديدا ووسطيا, فلقد قرر الأسطي محمد أن يتطوع في القوات المسلحة حتي لا يضطر إلي خيانة الأمانة وقبول العرض الجديد, وذهب إلي مصيره وكأنه يهذب تلك النفس ويعاقبها علي أنها فكرت في أن تتخلي عن معلمه وأستاذه, وظل في القوات المسلحة ثلاث سنوات هي مدة التطوع المؤقت الذي كان معمولا به آنذاك, وعندما خرج إلي الحياة المدنية, بحث عن محل لكل لا يضطر إلي الذهاب لمن يدفع أكثر, حتي وجد ذلك المحل الصغير بمنطقة جليم, وقبل أن يبدأ أن يكتب العقد ذهب إلي معلمه وهو متردد وقلق وعرض عليه الأمر واستأذنه في أنه سيفتح صالونا صغيرا, وفاجأه الحاج مصطفي بالموافقة والتشجيع, وقرر اهداءه كرسي حلاقة جديد الذي كان يساوي في ذلك الوقت خمسة عشر جنيها وظل هذا المعلم والأستاذ يقوم بزيارة صبيه شهريا الذي أصبح أسطي كبيرا وله صالون خاص, لكي يسأل عن أحواله ويطمئن عليه, وفي كل مرة كان يحمل له بعض الأدوات والمعدات التي يحتاجها إلي أن توفاه الله, وبقيت سيرة الرجل العظيم أوسمة علي صدد تاريخه وذكراه, ولن أنسي ذك التأثر, وتلك المحبة التي كان يروي من خلالها الأسطي محمد عن تاريخه ودور معلمه وأستاذه بهذا الوفاء وتلك الأصالة, ولم اتعجب بعد ما سمعته عن رقي وأدب هذا الرجل الذي تعلم جيدا في مدرسة الدنيا, وجامعة الحياة الكثير من آداب التعامل.. وتعاليم النجاح.