تطور كثيرا حلاق القرية الذي كنت أحب أن أراقبه في قريتنا أثناء زياراتي المتباعدة لها. كنت أحب ولا أدري أي أسباب لتلك الهواية الغريبة التي كنت أستمتع بها أشد الاستمتاع . ولكن أصارحكم أن مشهد حلاق القرية وهو يعمل مفترشا الأرض، جالسًا القرفصاء، ومن أمامه جلس الفلاح المصري الفصيح مستسلما أمام الحلاق الطبيب، وقد ربط منديلا يقترب من حجم الفوطة المتوسطة، علي جبهة الفلاح "الزبون"، وقد عقد عقدة عند منتصف الجبهة، عقدة يتوسطها مفتاح باب الدار، لا يقل طوله عن عشرين سنتيمترا، ثم يلف الحلاق الذي تعلم مهنته عن طريقة أجداده، وما من شك أن شجرة العائلة تمتد حتي أجدادنا الفراعنة، يلف المفتاح بقوة ليعتصر جبهة الزبون حتي يتورد وجه الفلاح الذي كان شاحبا، ويتألم الفلاح لثوان معدودة، يفك بعدها الحلاق الطبيب المنديل عن جبهته، فيبتسم الفلاح ويسحب شهيقا عميييييقا....... ثم يمد وجهه إلي الإمام في إستسلام تام لموسي الحلاق الذي ربط نوعا من الجلود في رقبة الزبون و"هات" يا سن للموسي... ثم يبدأ بعد ذلك عمله في حلاقة ذقن الفلاح...الذي في الغالب الأعم تنتظره مناسبة سعيدة هذا المساء..اما سهراية سمر في الحقل.. أو سهرة حلال فوق فرن الدار الدافئ، عندما يتأكد الظلام..ويتعمق شخير الأبناء. كنت أحتار وأنا في هذه السن المبكرة، وأنا أبحث عن تفسير لما أراه أمامي، خاصة أن تلك المشاهد لم أكن أألفها بسبب بعدي عن حياة القرية ووجودي في مجتمع المدينة بعيدا عن هذه الأجواء، وإن كنت صادفتها بعد ذلك مرارا في أماكن في قلب القاهرة، ولكن متوارية أسفل كوبري، أو في فضاء منطقة شعبية نائية من تلك التي اصطلح علي تسميتها بالعشوائيات!! وكانت دهشتي عظيمة، أن أعرف أن ما يفعله حلاق القرية هو حل شعبي فولكلوري قد يكون له أصل طبي لمرض الصداع المزمن الناتج عن عمل شاق، مضنين المراد هو صعود وتدفق الدماء بسرعة وبغزارة إلي منطقة الجبهة !! وكانت متعتي تتصاعد وأنا أشاهد حلاق القرية، الذي كنت مبهورا بطريقة أدائه لعمله، حتي ضبطني إثنان من كبار فناني الكاريكاتير في مجلة صباح الخير العريقة أثناء الفترة التي قضيتها فيها محررا شابا، هما علي وجه التحديد صديقي الكبيرين الراحل رءوف عياد، ومحمد حاكم الصغير وهما من عمالقة فن الكاريكاتير في مصر ضبطاني وأنا أرسم حلاق القرية بعد نحو عشرين عاما من مشاهدتي وأنا طفل صغير، وقد وجدا في الرسم بخبرتيهما مدي تأثري بهذه الشخصية الفولكلورية التي كانت أحد مظاهر موالد مصر حيث رسمت شخصية الحلاق بحسب تفسيرهما تعبر عن أصالة وشموخ وخطوط بالغت في امتدادها، لتعبر عن عمر الظاهرة وتغلغلها في تاريخنا وتراثنا. أعود للقول إن متعتي كانت تتأكد، وأنا أتأمل حلاق القرية أثناء حلاقته لأطفال صغار من قريتي، كان يحلق لهم مستعينا بماكينة الحلاقة البدائية يعني ع الزيرو ثم يترك خطًا رفيعًا من الشعر عند القفا، وكذلك قصة صغيرة في الأمام عند الجبهة، أما الباقي؛ فكان يلمع تحت أشعة الشمس، من دون أن يكون فيه " ريحة الشعر " وهي التقليعة التي تشبه الموضة التي سادت ملاعب كرة القدم في السنوات الأخيرة. ومرة أخري كان لابد أن أسأل، وعرفت أن أطفال ورجال القرية يرتدون الطواقي، وأنهم عندما يرتدونها فان الطاقية تلتحم بالرأس حتي الأماكن التي ترك فيها الحلاق بذكائه بعض الشعر، فيبدو الشعر وكأنه مكتمل من أسفل الطاقية. أما لماذا كان يتم حلاقة الشعر علي الرغم من الحرص علي إظهاره كاملاً ، فأتصور الآن أن الأمر كان يتعلق بمسألة النظافة الشخصية ، والتخلص من حشرات الرأس التي كانت سائدة قي تلك الفترة بسبب ندرة المياه النظيفة وحياة العمل في الحقل وهي حياة قاسية بكل المقاييس ،لم تكن تترك الأطفال إلا لبعض الوقت لممارسة بعض الألعاب الشعبية خاصة في الليالي القمرية والي الأسبوع المقبل باذن الله..