إن إعادة النظر في أفكارنا وفي حياتنا وفي الأشخاص الذين يحيطون بنا, هي عملية صحية وضرورية, وتمتد من البشر إلي الأحداث, وإلي الحياة السياسية والاقتصادية, وإلي النظريات العلمية وإلي تفسيرنا لكل ما يحيط بنا.. إعادة النظر هي مراجعة نقدية تقع في قلب التقييم, تساعدنا علي التكييف مع المتغيرات الجديدة وتفهم الأحداث والعالم بشكل أكثر دقة, يسمح لنا بالتعامل معها بشكل أكثر موضوعية, واستعادة بعض التوازن الذي نفتقده.. من هذا المنظور, وبعد مضي عشرة أعوام من الألفية الثالثة, وفي مطلع عام1102, لابد أن نتبين أهمية إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي نتبناها في مصر, في ضوء مراجعة نقدية لهذه السياسات وانعكاساتها علي العدالة الاجتماعية, وقدرتها علي تحقيق التوازن بين مختلف المصالح والمطالب.. هذه المراجعة ضرورية وتمت ولاتزال في الدول الرأسمالية الكبري بعد الأزمة المالية العالمية, وتداعياتها التي تخطت الحدود لجميع بلدان العالم.. بعد انتهاء العقد الأول من الألفية الثالثة, حدثت مراجعات نقدية لمفاهيم الديمقراطية وممارساتها في الليبرالية الغربية, وفي مفاهيم المصلحة العامة, والحريات, والمجتمع المدني, وحقوق الإنسان.. إن الأفكار والنظريات التي توافقنا حولها, في مطلع الألفية الثالثة وتمس جوهر الديمقراطية وأدوار المجتمع المدني, بدأت تهتز وتخضع لإعادة نظر ومراجعة نقدية.. هذه المراجعة النقدية هي حالة صحية, تشير إلي الحرص علي تحقيق نوعية حياة أفضل للإنسان, وتشير إلي عقل وفكر يرفضان الجمود( وهو ما يتم التعبير عنه أحيانا بالاستقرار) ويراجع المسلمات ذاتها.. في هذا الإطار, شهدت السنوات القليلة الماضية, حركة تجديد فكري في المجتمعات الغربية عبرت عن نفسها في إصدارات متنوعة ومحافل علمية عديدة, تراجع بشكل نقدي نظريات اقتصادية وسياسية, صاغت وشكلت العقل الغربي إذا جاز هذا التعبير عن اقتصادات السوق الحر والديمقراطية والمجتمع المدني.. إن هذه المراجعات النقدية التي أضحت تيارا جديدا لابد أن نتنبه لها, ومن الأولي أن نبادر نحن أيضا, في مصر والمنطقة العربية, بالإسهام فيها وإعادة النظر في الأفكار والهوة بينها وبين الواقع.. ما الذي تكشف عنه هذه المراجعات النقدية والتي تمس اقتصادات السوق والديمقراطية والمجتمع المدني, وفي سياق واحد؟ 1 إن أول ما أبرزته الكتابات الحديثة هو ضرورة إعادة النظر في العلاقة الثلاثية بين قوي السوق من جانب, والديمقراطية والمجتمع المدني من جانب آخر.. ذلك أن تحرير قوي السوق في إطار العولمة, التي كسرت الحدود التقليدية بين الدول والأسواق, قد أبرز رأسمالية متوحشة, وقوي وجماعات مصالح ترتبط بها, أدت إلي تداخل غير مسبوق بين السياسة والاقتصاد, ومراجعة مفاهيم المصلحة العامة والشأن العام, وكانت هناك قراءة جديدة للحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني يري فيها البعض أنها ليست ميدانا لفعل ديمقراطي خالص, لكنها مجالات تتأثر بالسلطة وعلاقات السوق والهيمنة الرأسمالية.. 2 الفكرة الثانية المهمة تعكس انهيارا جزئيا في التوقعات التي ربطت بين الديمقراطية والمجتمع المدني وتعميق التعددية, سواء في دول أوروبا الشرقية( من قبل), أو في بعض الدول العربية التي تشهد تحولا ديمقراطيا منذ التسعينيات في القرن العشرين, ومنها مصر. ووفقا لهذا التوجه والكاتب من بين المؤيدين له فإن مجرد تواجد بني تنظيمية تعبر عن المجتمع المدني, و منح سخية تدعم أدوار البعض منها للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان, لايؤثر جوهريا علي التحول الديمقراطي.. فالثقافة المدنية القائمة علي الحوار والتفاعل والتسامح وقيمة العمل الجماعي والممارسة الديمقراطية, قد تكون غائبة عن المجتمع المدني, ومن ثم تصادفنا منظمات مجتمع مدني تغيب عنها الثقافة المدنية.. من جانب آخر, فإن الاكتفاء بآلية واحدة وهي المجتمع المدني في غياب أحزاب سياسية تتسم بالفعالية, وكذلك في غياب عدالة اجتماعية, يجعل الحديث عن المجتمع المدني والديمقراطية هو مستوي من التنظير لا تتوافر بخصوصه دلائل ومؤشرات قياس قوية.. 3 الأمر الثالث المهم الذي أضحي محلا لإعادة النظر في الكتابات والرؤي الحديثة لثلاثية الديمقراطية والمجتمع المدني والسوق, تري أن التطورات التي لحقت بالسوق في الدول الرأسمالية, ثم تحرير اقتصادات السوق في الدول النامية, قد خلق في سياق العولمة حالة من الخلط بين جماعات المصالح ومنظمات المجتمع المدني... لقد سقط الخيط الرفيع بين الأثنين, لأن الأخيرة تعبر عن المصالح العامة المجتمعية وتسعي للتأثير في السياسات الأقتصادية والاجتماعية بما يحقق مصالحها الفئوية( جماعات العمال علي سبيل المثال).. ومن ثم يبدو المجتمع المدني علي الأقل في قطاع منه آلية تعمق التفاوت بين الثروات والنفوذ وإمكانات التأثير, وبما يشكك في مفهوم المبادرة لتحقيق المصلحة العامة.. 4 الفكرة الرابعة التي نطرحها ضمن إعادة النظر في الديمقراطية والمجتمع المدني والسوق, تتعلق بالتطور التكنولوجي المتسارع التي تشهده العولمة, والذي أدي في جانب منه إلي هيمنة غير مرئية من شبكة إعلامية, تتغلغل بداخلها مصالح وقوي سياسية واقتصادية, تعرض الفكر التقليدي للديمقراطية والتعددية لمخاطر لم تكن قائمة من قبل... إن بروز طرق جديدة وقوية في السيطرة الاجتماعية تعمل علي مستوي الوعي, أضحت تشكل تحديا رئيسا أكد قدرة أصحاب رأس المال علي العصف بالأفكار والمكونات الرئيسية للديمقراطية... ولعل نظرة واحدة لأوضاع الفضائيات العربية تكفي لإدراك مدي هيمنة التيارات الدينية, وكبار رجال الأعمال, وأصحاب المصالح والنفوذ السياسي, علي خريطة الفضائيات, والمضامين التي تقدمها, والمعارك الوهمية التي يخوضها البعض منها.. 5 يضاف إلي ما سبق تخوفات إضافية من آثار ممارسات السوق الرأسمالي, علي التعددية والديمقراطية والمجتمع المدني, وانتقال قواعد السوق التنافسي إلي مجالات تمس الشأن العام والمصلحة العامة, ولم نكن نتصور اقتحامها.. من ذلك الصراع حول الموارد والتمويل من جانب قطاعات مهمة من المجتمع المدني, والتنافس حول المنح السخية, والانتقال من جانب بعض المنظمات المدنية, من مجال لآخر وفقا لمجالات اهتمام الجهات المانحة وأولوياتها.. 6 إن وجود منظمات ومؤسسات مجتمع مدني, في كثير من بلاد العالم, ومن بينها مصر, تعكس التداخل بين أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي, يعد ضمن أفكار وممارسات يعاد النظر فيها... هذا التشابك القوي بين الثروة والسلطة, يدفعنا للمراجعة النقدية للمبادرات التطوعية التي تستهدف المصلحة العامة, ونعبر عنها بالمجتمع المدني.. هنا السؤال الرئيسي ما مدي استقلالية هذه المنظمات عن المصالح والقوي التي تؤسسها وتمولها؟ وإلي أي حد ينطبق علي هذه المنظمات معيار التوجه النزيه إلي المنفعة العامة ومصالح المجتمع؟ وهل يمكن أن تكون هذه المنظمات آليات تحقق الديمقراطية وتسعي للعدالة الاجتماعية؟... إن مراجعة واحدة فقط للجمعيات والمؤسسات الأهلية في مصر, خلال عامي2009 و2010, والتي تم إشهارها سوف تفصح وبقوة عن تداخل النفوذ الاقتصادي والسياسي, وارتباط أغلب هذه المنظمات التي تم تأسيسها للترويج لرجال أعمال وسياسيين قبل انتخابات مجلس الشعب الأخيرة... ألا يدفع ذلك البعد أيضا إلي إعادة النظر في ثلاثية السوق والديمقراطية والمجتمع المدني؟ 7 يدفعنا أيضا إلي إعادة النظر, والتجديد الفكري لنظريات تمس الديمقراطية والمجتمع المدني, التصاعد الرهيب وغير المسبوق في عدد مستخدمي الإنترنت في العالم وفي المنطقة العربية وفي مصر.. مهم طرح السؤال التالي والاجتهاد في الإجابة عنه: كيف يؤثر هذا التصاعد في استخدام الشبكة الإلكترونية علي الديمقراطية والمجتمع المدني؟ إن عدد مستخدمي الإنترنت في مصر وصل إلي14.5 مليون مستخدم عام2009, الغالبية العظمي منهم وفقا لتقرير مركز المعلومات بمجلس الوزراء من الشباب أقل من35 سنة.. إن هذه الحقيقة المسجلة تدفعنا لأمرين, أولهما يذهب إلي أننا أمام مجتمع مدني افتراضي يسمح باندماج وتواصل الشباب, بمرونة وحرية, وبعيدا عن أطر تنظيمية, خاصة إذا علمنا مثلا أن20% من المدونات المصرية وفقا لتقرير مركز معلومات مجلس الوزراء لها طابع سياسي... ثانيهما أن تطور تكنولوجيا الاتصال قد أثر بالفعل علي انخراط الشباب في المجتمع المدني, بل أثر علي المكانة التقليدية التي احتلتها المنظمات الحقوقية في المجتمع المدني... إذن إعادة النظر والتجديد الفكري في قضايا محورية تهمنا وتهم العالم, هو أمر ضروري للغاية يستحق رؤية أكثر شمولا, وأكثر عمقا, يتناسب مع جدية التحديات التي تواجهنا... لقد انتهي عهد المقولات العامة, والتعميم, والخطابات الأيديولوجية, واتجه كل من هو جاد في الساحة الفكرية والساحة السياسية إلي المراجعة النقدية للمثلث الذهبي الخطير: السوق, الديمقراطية, المجتمع المدني...