وطاهر أبوزيد لمن لا يعرفه من أبناء هذا الزمان هو الاذاعي الرائد والاعلامي البارز والمفكر الكبير الذي غاب عنا منذ أيام قليلة, عن ثمانية وثمانين عاما, توزعت بين دور عصامي قام به في صباه وشبابه. دراسة وتحصيلا وإنضاجا لقدراته وتعميقا لثقافاته, حتي انتهي به الامر بالتخرج في كلية الحقوق بعد كفاح مرير مع ظروف واقعه من أجل أن يحقق البداية الصحيحة التي سينطلق منها, ثم تجيء مرحلة التحاقه بالعمل الاذاعي ضمن دفعة من الجيل الذهبي في مسيرة الإذاعة رجالا ونساء مذيعا, ومقدما مبدعا لعدد من البرامج التي ارتبط اسمه بها, محققا شهرته المدوية في الفضاء الاذاعي والاعلامي. وبخاصة برنامجه الذائع الصيت جرب حظك الذي كان يعده بنفسه ويختار شخصياته وضيوفه بنفسه, ويقدمه بأسلوب طاهر ابوزيد الذي يمزج بين اللفتة الذكية والطرفة المدهشة والدعابة الخفيفة الظل, والملاحظة التي تكشف عن عمق ثقافته وسعة اطلاعه ومتابعته, وكأنه كان يرسم في كل حلقه من البرنامج الذي استمر لسنوات طويلة مدرسة قائمة بذاتها بالكلمات والحوار والتعليقات والقفشات لوحة مرئية مسموعة للضيف, يحاوره في سلاسة وحنو ورقي وإنسانية رحبة, ويستخرج منه وهو النموذج الإنساني العادي كنوز الشخصية المصرية, التي تنطق رغم أميتها بالحكمة والرأي السديد والشجاع, ويستدر إعجاب المستمعين وتعاطفهم ومتابعتهم المستغرقة في متعة أسلوب أجمل محاور إذاعي مثقف في تاريخ الإذاعة المصرية. وفي مرحلة من مراحل تألقه في العمل الإذاعي, وقد أصبح رئيسا لإذاعة الشرق الأوسط, يذيب فيها عصارة خبراته وتجاربه ويضخ في برامجها وينفخ في صدور العاملين فيها, روحه الوثابة المتطلعة والمقتحمة, ويقود كتيبة العمل المدهشة التي حققت لهذه الإذاعة علي يديه مرحلة تأسيسها الحقيقي, وإطلاق الافكار الجديدة التي لا تنتهي ولا تنفد في شرايينها في هذه المرحلة من التألق, يخوض طاهر أبوزيد معركة الانتخابات البرلمانية مرشحا عن دائرة بلدته طلخا, ويحقق اكتساحا ونصرا ساحقا, يستمر لدورتين من دورات المجلس, ويصبح اول إذاعي وإعلامي يخوض مجال العمل البرلماني, كان طاهر ابوزيد بالإضافة إلي شواغله الأخري الإذاعية والسياسية عاكفا علي تقديم برنامجه التليفزيوني رأي الشعب الذي لم يسبق ولم يلحق حتي الآن في نجاحه المدوي, وصدقه ووطنيته في الاختيار والتقديم, وهو يقدم بالصوت والصورة لأول مرة علي الشاشة تحقيقا تليفزيونيا عما يدور في جلسات المجلس التي أصبحت حديث الناس, وليتابع من خلالها المجتمع كله نافذة مفعمة بالاخلاص والحماس جسدها طاهر ابوزيد, الوطني العاشق لبلده وشعبها حتي النخاع. كما كان من مظاهر عشقه لهذا الشعب وفنونه وتراثه, تقديمه لبرنامجه التليفزيوني الرائد فن الشعب مزيلا صدأ الاهمال عن كنوز هذا الفن, وعن إبداعات أعلامه في كل المجالات, وسرعان ما أصبح هذا البرنامج مع شقيقه رأي الشعب صوتا للناس, ينطقون من خلاله بما كان مسكوتا عنه في كثير من الأوقات, ويعبرون في حدية وتلقائية وحضور فني مدهش عما يمتليء به وجدان ملايين البسطاء من أبناء هذا الشعب, وهو وجدان اتسع لحضارات وثقافات نمت وازدهرت علي ضفتي الوادي, وارتبطت بالنيل والحاكم والارض ومواسم الزرع والحصاد وتغير الشهور والفصول وحلول استعمار بعد آخر وطغيان في إثر طغيان. وعندما يتحرر طاهر ابوزيد من أعباء الوظيفة التي تعرض خلالها بسبب شخصيته ومكوناته ووطنيته ومواقفه لكثير من صنوف الاضطهاد والتجاهل والاقصاء, ومحاولة إيقاف طوفان نشاطه واهتماماته وتسجيلاته الإذاعية في مصر وفي كثير من البلدان العربية, يبدأ وهو علي مشارف الثمانين في ممارسة الرسالة التي نذر لها أعوامه الأخيرة, عملا ونضالا وتجميعا للأنصار وطلبا للمؤازرة, من خلال ما سماه في البداية جبهة حماة اللغة العربية فلما اعترضت وزارة الشئون الاجتماعية علي تعبير الجبهة غيره الي جمعية فأصبحت تمارس نشاطها القانوني باسم جمعية حماة اللغة العربية. وسرعان ما أصبحت هذه الجمعية والعمل من أجل رفعة شأن اللغة العربية والدعوة الي الارتقاء بها ومقاومة عوامل التخلف والتراجع في التعليم وفي حركة المجتمع التي تهدد هذه اللغة وتكاد تصيبها في الصميم, أصبح ذلك كله شاغله الأساسي ليل نهار, ومحور نشاطه الذي لا يهدأ, وجوهر حياته ووجوده. وأصبح للجمعية مقر دائم ونشاط أسبوعي وهيكل تنظيمي, وأصبح لهذا النشاط متابعة دائمة وتسجيل فوري وإعلام عنه, وحين فكرت الإذاعة أخيرا في الاستعانة بطاهر ابوزيد: الخبرة والأستاذية والريادة ودعاه عمر بطيشة ليقدم من إذاعة البرنامج العام في كل أسبوع اسبوعيات طاهر ابوزيد, أصبح هذا البرنامج متنفسا يتسع لمتابعة الحركة الدائبة والنشاط المتوهج والفكر المتجدد والحوارات الموسعة التي تدور في رحاب الجمعية, وهو يقدم لذلك كله ويعقب عليه, في رشاقة وعمق ورصانة, ينتقل كالفراشة من موضوع إلي موضوع ومن تسجيل الي آخر, وهو يفتن في تقديم مائدة إذاعية حافلة أجاد صنعها وتقديمها, محورها الدائم اللغة العربية وتجلياتها في القصيدة والأغنية والحديث والحوار وكل كلام جميل. ويرحل طاهر أبوزيد مؤسس جمعية حماة اللغة العربية ورئيسها, ومجمع اللغة العربية يخطط لمؤتمره السنوي الذي ينعقد كل عام في الاسبوع الاخير من شهر مارس والأسبوع الاول من أبريل, وكنا في المجمع نمني النفس بأن طاهر أبوزيد سيكون واحدا من نجوم مؤتمر هذا العام وفرسانه وأبرز المتحدثين فيه, فموضوعه هو اللغة العربية ومؤسسات المجتمع المدني وفي مقدمتها الجمعية التي يرأسها, بالاضافة الي الجمعية المصرية لتعريب العلوم وجمعية لسان العرب. يرحل طاهر ابوزيد وهو في أوج نشاطه الذي ينوء بمثله الشباب, لكنه كان يدوس علي آلامه وضعفه وشيخوخته لكي يواصل رسالته, التي جعلته واحدا من الرموز النبيلة التي لا تنسي في ريادة العمل الإذاعي والإعلامي, وفي تبني قضية اللغة العربية, بحسه الوطني والعروبي المتألق, واستماتته في الترويج لها والدفاع عنها وجودا وصحة وازدهارا. يرحمه الله المزيد من مقالات فاروق شوشة