من الصعب الوصول بدقة الي وصف جامع مانع للنصوص التي وردت في كتاب كتابات نوبة الحراسة الذي أعده الزميل محمد شعير نائب رئيس تحرير صحيفة أخبار الأدب ونشرته دار ميريت مؤخرا. فالكتاب الذي تضمن رسائل الكاتب الراحل الكبير عبد الحكيم قاسم ونشر مواكبا للذكري العشرين لرحيله يفتح أبوابا مهمة لقراءة أدب جيل الستينيات, كما يعطي علامات دالة علي صفات صاحبها وسماته الأسلوبية وتصوراته عن الكتابة والحياة كذلك. وعبد الحكيم قاسم(1990-1934) أحد أبرز كتاب جيل الستينيات, ولد بقرية البندرة قرب طنطا. انتقل في منتصف الخمسينات إلي القاهرة وبدأ الكتابة الأدبية في منتصف الستينات حينما سجن لمدة أربع سنوات لانتمائه لتنظيم يساري. عاش ببرلين في الفترة من عام1974 إلي عام1985 بغرض إعداد رسالة للدكتوراة عن الأدب المصري المعاصر وعمل كحارس ليلي, ثم عاد إلي القاهرة حيث توفي عام1990 . له خمس روايات أبرزها( أيام الانسان السبعة, المهدي, قدر الغرف المقبضة, محاولة للخروج) وأربع روايات قصيرة, وخمس مجموعات قصصية ومسرحية واحدة. و بداية من المقدمة يكشف القاريء عن قيمة السنوات التي تفرغ فيها شعير لتنفيذ الكتاب وإعداده علي هذه الصورة المتميزة, إذ بذل جهدا خارقا في جمع الرسائل وتصنيفها وتحقيقها بالاشارة الي سنوات كتابتها والتعريف بأسماء الاشخاص الموجهة لهم لينتهي الي تصنيفها بإعتبارها كتابة بدون مكياج, تسقط فيها الحواجز, وتقود الي غير المألوف في الكتابة, فبعض هذه الرسائل لها سمة شخصية لكونها كتبت الي أشخاص حميميين, سواء شقيقه عبدالمنعم أو صديقه وزوج شقيقته الشاعر الراحل محمد صالح لكن غالبيتها موجه الي معاصريه من الكتاب والنقاد وبات معظمهم مشهورا في الأوساط الأدبية الان مثل الراحلين سامي خشبة ومحمد روميش والناقد ناجي نجيب والكتاب إدوارد الخراط وسعيد الكفراوي ومحمود الورداني ومحمود عبد الوهاب. وفي النوع الأول من الرسائل القريبة في عالمها من عنوان كتابه الدال الأشواق والأسي يغرق قاسم في هموم غربته الناطقة بأشواق الغربة وآساها, فتجربته كانت قاسية كما يسهل اكتشاف ذلك لكن صاحبها يمضي الي خطوات أعمق من حيث قدرته علي كشف إنسانيته الرحبة, لاسيما علي صعيد تناول الأمور المتعلقة بأسرته وأولاده ايزيس وأمير وعلاقته بالزوجة والأم والمرأة اجمالا, بل وقريته الأولي التي كان شديد الإرتباط بمشكلاتها وهيمنت بفضاءها علي عالمه الفني, الي جانب تقديم تصورات عن مأزق العلاقة مع الغرب. وفي صفحات كثيرة يلجأ الكاتب الي اجراء الكثير من المقارنات الدالة بين واقعهم وواقعنا, وهي مقارنات تكشف عن غصة يصعب النظر اليها ك جرح شخصي وانما هي هوية حضارية منقسمة وجريحة في علاقتها بالآخر الغربي. وفي الرسائل أيضا أشكال من المناجاة الفنية ونصوص كتبها قاسم للقفز, ليس فقط فوق أسوار غربته وانما خلف الحدود الصارمة بين الأنواع الأدبية, فرسالته الأولي الي محمد صالح تضرب في الصميم حدود النوع الأدبي وتبتكر كتابة شجية عصية علي التصنيف, تخرج لسانها للنقد التقليدي وتتحدي أدواته. وفي رسائله الموجهة الي الكتاب والنقاد ثمة إحساس لا يخفيه بقيمة موهبته العالية, وجرأة تعلن عن نفسها بوضوح الي حد الهجوم علي الرموز الأدبية التي صنعها الإعلام الذي يحمله الكثير من مسئولية تزييف الواقع. واللافت ان هذه الجرأة لا يمكن ردها الي ضرورات الصراع التقليدي بين الأجيال الادبية بدليل أن هجومه استثني قامات كبري علي رأسها نجيب محفوظ الذي يصفه في رسالة الي الناقد ناجي نجيب بأنه ظاهرة نمت في غير وقتنا, لافتا الي أنه بمعني ما كاتب خارج فكرة الصراع تلك لان له صورة محددة تنتقل الي أجيال الققراء دون إدخال تعديل عليها وفي رسائله الي روميش بوجه خاص حوار نادر حول معني الكتابة, معني ان تكون كاتبا محترفا تعيش من أجل الكتابة وأن تعيش بالكتابة, الي جانب رؤية عن العلاقة مع المؤسسة والمجتمع الثقافي ذاته. وفي بعض رسائل قاسم الذي اعترف بأن جملته قد تكون خشنة حد الإيذاء أراء حادة في جيله الستيني واضح الموهبة- كما يقول- لكنه أيضا جيل, يسيطر العصاب علي سلوكه الجماعي, فقد عاش الجيل غربة موحشة, منفيا في المقاهي, مبعدا عن كل المسئوليات والقدرة علي التأثير ويعتقد صاحب أيام الإنسان السبعة أن سبب هذا العصاب هو تجربة الإقصاء التي عاشها الجيل بعد ثورة يوليو في مجتمع كما يقول تفرض فيه وجهة نظر واحدة, وتحرم فيها كل وجهة نظر مخالفة, يكون من الصعب الحصول علي ثقافة ناضجة ومتوازنة. ثمة فضاء تاريخي ووعي سابق لزمنه بالمعني الشائع الآن في سيوسولوجيا الأدب عن الحقل الاجتماعي يهيمنان علي الرسائل, لكنهما لا يحصران مضمونها في هذا البعد فقط, بفضله قدرة الكتاب علي فتح ملفات الصراعات والقضايا الأدبية التي كانت قائمة في زمن صاحبها الي جانب الكشف وبعمق عن مرحلة بكاملها لاتزال قادرة بحقائقها القديمة علي إثارة الدهشة.