كان لابد أن أراها بعيون الخيال المؤمن, كلما داه مني مالا أطيق من آلام, إما بشكل شخصي أو اجتماعي, انها مريم البتول عليها السلام ومن ضوء نورها يعود للقلب يقين بأن الإشراق قادم بمايزيل غمام الآلام. واعترف بأن خجلا عميقا أخيرا قد دهمني, حين أطل العام الجديد, وحاول أرعن العقل فاقد الاحساس أن يكسر فرحة الميلاد للعام الجديد بدم ضحايا جاءوا يطلبون التفاؤل بالصلاة في كنيسة القديسين. وكانت العذراء كريمة معي فملأت صورتها خيالي, لتخفف من وخز الألم. أتذكر المرة الأولي التي رأيتها فيها بعيون القلب, كان ذلك بعد هزيمة يونيو7691, حين انطلق البشر يؤكدون أن صورة العذراء ظهرت بحي الزيتون. فجريت إلي هناك وكأني أبحث عن منفذ من آلام فوق الاحتمال مثلما كان فعل آلاف المصريين, فقد فقدنا العديد من الأصدقاء وكانت صدمة عودة القوات من سيناء دون قتال تفوق طاقة الاحتمال, ووسط زحام البشر, سألني صديق هل تراها؟ أجبت أراها بعيون القلب. ومنذ ذلك الزمن صارت العذراء تضيء قلبي باشراقاتها, فأنا واحد من المسلمين المتيقنين بأنها البتول التي خرج منها نور من النقاء الكامل اسمه المسيح عيسي ابن مريم. وحين أطلت الألفية الجديدة منذ أكثر من عشر سنوات قيل إنها ظهرت من جديد في أسيوط فلم تأخذني المفاجأة, بل صفا القلب بدقات الوجد لألمس بعضا من ملامحها في نسيج القلب, أليست هي من قال عنها القرآن الكريم وإذ قالت الملائكة يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك علي نساء العالمين الآية24 من سورة آل عمران. لذلك غضبت من بابا روما الذي لم يستوعب قدر إيماننا نحن أهل المشرق بك, سواء أكنا مسلمين أم مسيحيين فحين وقع تفجير كنيسة القديسين بالاسكندرية لم يقم بمواستنا مما حدث لنا, بل وجدها فرصة كي يضع ملحا فوق جراحنا, متناسيا صمته عندما أطل القرن الحادي والعشرون وكانت هناك مذابح تفوق كل خيال في كنيسة المهد ببيت لحم حين احتمي بعض من أهل فلسطين يرجون الحماية, فحاصرهم رصاص القتلة, ومازالت في الخيال صورة تمثالك المقام في ساحة كنيسة المهد وقد اخترقته رصاصات الاسرائيليين ولم يخرج من فم كبير الكاثوليك بالفاتيكان أدني تعليق, لأن حصاره في ذلك الوقت قد تم بواسطة تسريب قصص اغتصاب عدد من رجال كنيسته لأطفال في بقاع العالم, أما أبناء مصر من مسلمين وأقباط فقد تواصلوا مع الإيمان بك ايتها البتول بكل القداسة. وهل أنسي ملامح السيدة ماكورميك بولاية كلورادو وفي حضور رجال الآثار المصريين, وهي تقول يبدو لي أن تقديس أهل مصر من أقباط ومسلمين لمريم العذراء نابع لا من تنزيل الكتب السماوية فقط, ولكن لأن في التاريخ الفرعوني ما يتشابه مع حياة مريم البتول وهي قصة ايزيس وابنها حورس, وهو المولود بمعجزة بحث إيزيس عن أوزريس بعد أن قطعه الشرير ست, ووزع قطع جسده علي أرض مصر. فجمعتها إيزيس ثم تحولت إلي يمامة لتحمل بحورس من الجسد المقطع: هنا قلت للسيدة ماكورميك ليكن لك تفسيرك الذي تؤمنين به, ولكنا نؤمن بمريم البتول وعيسي عليه السلام, لأن كتبنا المقدسة تلزمنا بذلك, وقد نفرح بتفسيرك لإيماننا, ولكن الإيمان المستقر في القلب ينبع دون انتظار لتفسير ويكفي أنها وهبتنا المسيح الذي صار يوم ميلاده بداية تحدد بها أزمنتنا, مثلما نحدد بيوم هجرة محمد عليه الصلاة والسلام نفس الأيام. أنت تعرف الوصايا, لا تقتل, لا تزن, لا تسرق, لا تشهد بالزور, لا تؤذ أحدا, أكرم أباك وأمك, فقال الرجل: عرفت ذلك وحفظته منذ حداثتي فتطلع اليه المسيح وقال: تريد أن تكون كاملا؟ يعوزك شيء واحد, أذهب بكل ما تملك وأعطه للفقراء فتقتني لك كنزا في السماء, وتعال اتبعني. فاكتأب الرجل من هذا القول. فقد كان صاحب أملاك كثيرة, ومضي حزينا. وتلفت المسيح قائلا لتلاميذه كم هو عسير علي ذوي الأموال الكثيرة أن يدخلوا في ملكوت الله. واعترف أنا كاتب هذه السطور أني تذكرت هذا القول عندما سقط سقف وجدران مصنع متهالك بالاسكندرية منذ ثلاثة أسابيع وضاع تحت ركامه ثلاثون إنسانا, لأن صاحبه لم يستفد من حقائق الإيمان بالإسلام أو بالمسيحية, والتي تحض علي الحرص علي حياة البشر وأن يأخذ الأجير أجره قبل أن يجف عرقه, ثم جاء حادث تفجير الكنيسة ليجسد لنا صورة متهم ثان قبل المتهم الذي تبحث عنه أجهزة الأمن, هذا المتهم الثاني هو متهم معنوي يقف وراء كل ذلك, ألا وهو عجزنا عن الإيمان الفعلي بحقائق احتياجنا إلي تنمية فعلية لا تتلاعب بالأرقام فيشعر بها الضعاف منا. وليس من المدهش أن يأتينا جرس الانذار بأن نربط القول بالعمل, بدلا من الغرق في الثرثرة التي يغيب بها القلب والعقل في ردهات الضياع إلي أن تفجعنا كارثة جديدة. جرس إنذار ينبهنا إلي ضرورة أن ننقي أرواحنا بالقدرة علي أن نمزج قول محمد عليه السلام بأن القلب المؤمن قادر علي المستحيل وما قاله عيسي عليه السلام حين آمن بأن الجبل يمكن أن ينتقل من مكان إلي آخر بقلب مؤمن. وبمثل هذا الإيمان نخرج من زمن الإيمان الهش لنصل إلي الإيمان المرتبط بالعمل, فيكون المستقبل مضيئا علي قدر الإيمان.