ظهرت في السنوات الأخيرة كتابات عديدة تطالب برد الاعتبار للدولة, التي أدي تهميش دورها إلي مشكلات عديدة بدءا من التفسخ الاجتماعي ومرورا بالمآسي الإنسانية والمجاعات, وانتهاء بالإرهاب والجريمة المنظمة. وكثيرون ممن كانوا أشد المطالبين بالافراط في الخصخصة, سياسيا واقتصاديا, عادوا يطالبون بوجود دولة قوية تقوم علي الشفافية, والمساءلة, وحكم القانون, وتتبني سياسات عامة تحقق العدالة الاجتماعية, تسعي إلي تمكين المواطن سياسيا واقتصادية وثقافيا, بحيث يكون مشاركا فاعلا, ومنتجا رشيدا, وواعيا مستنيرا. وكلما ازدادت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وطأة, تعالت الأصوات التي تبحث عن الدولة التنموية الديمقراطية. حلم الدولة التي تعزز الديمقراطية( التنمية السياسية), والنمو الاقتصادي المتوازن( التنمية الاقتصادية), والمساواة والعدالة الاجتماعية( التنمية الاجتماعية), والتنوع والحرية الفكرية( التنمية الثقافية), لا يزال يطرق بقوة عقول النخبة العربية. وفي ظل تكالب الأزمات علي الدولة العربية, من تعثر في منظومة الحكم الرشيد, وصعود نزعات دينية ومذهبية شديدة الانقسامية, وتراجع مستوي التسامح والنقد الاجتماعي, تتجه أنظار النخبة العربية إلي المطالبة بالإصلاح, بحثا عن الدولة الوطنية الديمقراطية التنموية, ويلح عليها سؤال أساسي, وان أختلفت صياغته: هل لايزال ممكنا تحقيق إصلاح عربي يحفظ للمجتمعات وحدتها, ويعزز فرص التنمية بها, ويحفظ للمواطن حقوقه وكرامته, ويطور نوعية الحياة التي يعيشها؟ قد يكون في التقرير الثالث لمرصد الإصلاح العربي بمكتبة الإسكندرية, الذي يصدر هذا الأسبوع طرحا لهذا السؤال. يفتح ذلك المجال أمام الباحثين, وصناع القرار, والمعنيين بالتنمية لإعادة النظر في مسيرة الإصلاح عامة, وفي مجال التعليم خاصة, وهو الموضوع المحوري الذي أشتبك معه, بالرأي نحو ألف ومائتين وستين شخصا يمثلون عينة من النخبة العربية بمعناها الواسع, سياسيا واقتصاديا وثقافيا. بالطبع تشهد المجتمعات العربية فيما بينها تنوعا في مستوي التطور السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي, وبرغم ذلك التفاوت الظاهر, فإن هناك قضايا عديدة نكشف فيها أن الاختلاف في المحيط العربي يكون في الدرجة, وليس في النوع. فقد عبرت غالبية النخبة العربية عن عدم رضاها عن مستوي الشفافية, والحقوق والحريات, وضعف قدرة المنظمات الحقوقية علي الإرتقاء بحقوق الإنسان, ثقافة وممارسة, واستمرار حالة التداخل بين السلطات, وضعف أداء الأحزاب السياسية, وتراجع الدور الإصلاحي للمؤسسة الدينية, وعدم وجود سياسات واضحة في مجال التعليم, ومحدودية برامج التعليم في مواكبة متطلبات سوق العمل حاضرا ومستقبلا. في التقرير تحسن في إدراك النخبة العربية لعدد من القضايا, مثل انحسار الفجوة النوعية بين الذكور والإناث في مجال التعليم, إلا أن التفرقة النوعية التي ابتلي بها النظام التعليمي في العالم العربي لعقود, وأنتبهت إليها مؤخرا الخطط التنموية, تعيد انتاج نفسها علي نحو آخر يتمثل في التفرقة الطبقية, إذ يشير الواقع إلي التفاوت المتصاعد في نوعية وجودة التعليم المقدم للفقراء ومحدودي الدخل مقارنة بنوعية التعليم المقدم لأبناء الشرائح الاجتماعية العليا. هذا التفاوت يشكل عاملا سلبيا أمام الحراك الاجتماعي, ويعمل ليس فقط علي توريث الفقر المادي, ولكن يتسبب كذلك في تمديد حالة الفقر التعليمي والثقافي عند قطاعات عريضة من أبناء المجتمعات العربية. ومن النتائح الملفتة في التقرير أن نسبة كبيرة تصل إلي نحو58% من المبحوثين طالبوا بأهمية تركيز المؤسسات التعليمية علي التربية المدنية, وبث مفاهيم المواطنة وقبول الآخر, ولا يقل عن ذلك مفاجأة انحياز نسبة كبيرة من النخبة العربية إلي قيمة الولاء للدولة علي حساب الولاءات الفرعية, دينية ومذهبية ومناطقية, وإن أختلفت هذه النسبة من منطقة جغرافية لأخري في العالم العربي. يعبر ذلك في جانب منه عن قلق النخبة العربية عن انفراط عقد الدولة القومية, وتفشي النزاعات التي عادة ما تتسبب في فقر اقتصادي, ومآس إنسانية, وتخفيض مستويات رأس المال الاجتماعي, وتشكيل ذاكرة محملة بالكراهية. وإذا كان التقرير بحكم فلسفته ومنهجه لايتعقب تحقق برامج الإصلاح في الواقع العملي, ولايذهب كذلك لاستطلاع رأي الجماهير العربية علي اتساعها وتنوعها وتشرذمها, إلا أنه يقدم دلالات بالغة الأهمية عن تصورات نخبة عربية في الإصلاح جاء أكثر من ثلثها أقل من خمسة وثلاثين عاما, ومثله تقريبا أقل من خمسين عاما, ويبلغ حملة درجتي الماجستير والدكتوراه نحو54% من حجم العينة, وهو ما يعني أن النخبة المنوط بها التبشير بخطابات التحديث والإصلاح لديها هواجس حقيقية لاتتعلق فقط بتعثر جهود التنمية وتلكؤ التطور السياسي والثقافي, وتردي النظام التعليمي, ولكن ترتبط بإدراك قلق لطبيعة التحديات التي تحيط بكيان الدولة الوطنية الجامعة.