هل من المنطقي أن ينطق لسان حال بعض شعوب دول إفريقيا جنوب الصحراء بتساؤل مفاده: من أين سيأتي عشاؤنا؟ ومن هي الدولة الكريمة التي ستتبرع لنا بالإفطار؟ وهل يتسق كل هذا الفقر المدقع مع ما تتمتع به القارة السوداء بالنصيب الأكبر من الثروات الطبيعية التي حبا الله بها الكرة الأرضية؟ وهل تستقيم تلك الأوضاع مع ذلك الشذوذ السياسي المتمثل في استعانة حكومات إفريقية بقوات أجنبية لفرض سيادتها علي ترابها الوطني مقابل حصول تلك الدولة الأجنبية علي النصيب الأكبر من ثروات البلاد؟! وأين تلك الجيوش الوطنية التي استمرت أنظمة سنوات طويلة في الحكم لكي تقيمها ؟! هكذا انطلقت تلك الأسئلة كطلقات الرصاص من ذلك الدبلوماسي الذي ينتمي لدولة بغرب القارة, والذي اعتزل الدبلوماسية واحترف العمل التجاري في معرض حديثي معه حول ظاهرة عدم الاستقرار السياسي التي ابتليت بها قارة إفريقيا, والتي أحد أهم تجلياتها حركات التمرد والانفصال التي لا تهدأ إلا لتثور مرة ثانية. وإذا كانت التساؤلات التي طرحها الدبلوماسي الإفريقي السابق غلفتها نبرة تحمل أطرافا خارجية المسئولية عن ظاهرة عدم الاستقرار السياسي, وبالتالي, تفشي ظاهرة حركات التمرد والانفصال, فإنه من الإنصاف وسعيا للتوصل إلي تحليل علمي للظاهرة يجب علينا الاعتراف بوجود أسباب داخلية ترتبط بالثقافة والأوضاع السياسية والاجتماعية لشعوب القارة والتي أدت في المقام الأول إلي تفشي الظاهرة. ففي معرض الحديث عن الأسباب الخارجية التي أدت إلي تصاعد حدة حركات الانفصال والتمرد, فإن الحديث يجب أن يتوقف أمام انهيار نهاية الحرب الباردة, وهو الذي غير ملامح وجه العلاقات الدولية فيما يتعلق بالقارة الإفريقية. وقد تمثل الملمح الأول للعلاقات الدولية في بداية الالفية الثالثة في تراجع الأهمية الاستراتيجية العقائدية في الصراع علي إفريقيا في السياسات الأمريكية, فبدلا من نمط علاقات( الدولة دولة) التي كان سائدا في زمن الحرب الباردة, بدأت واشنطن في التركيز علي تطوير علاقات استراتيجية بين المنظمات غير الحكومية والشركات عابرة القارات من ناحية, وبين دول العالم الثالث وعلي رأسها دول إفريقيا من ناحية أخري. وبدورها, بدأت تلك المنظمات غير الحكومية والشركات عابرة القارات في ملء الفراغ المتخلف عن انسحاب الدول الكبري من القارة, وذلك بمنحها القروض أو بالوساطة في الصراعات المسلحة مثل الدور الذي تلعبه حاليا شركة لونرو البريطانية وشركة بريدجستون في شرق أفريقيا وليبيريا, والدور الذي لعبته وتلعبه المنظمات المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية في الجنوب الإفريقي والسودان. الملمح الثاني الذي صاحب نهاية الحرب الباردة, وتزايد في العقد الأول من الألفية الثالثة, تمثل في شبه توقف الدول الكبري عن تزويد دول القارة خاصة جنوب الصحراء بالمساعدات العسكرية مما أثر بشدة علي مستويات التسليح لتلك الدول حتي وصل الإنفاق الدفاعي في دول جنوب القارة إلي أقل من1% من الإنفاق الدفاعي في العالم, ومازالت الأرقام تسجل مزيدا من الهبوط. وقد تسبب الملمح السابق في مضاعفة خطورة الملمح الثالث والذي يتمثل في أن الإمكانات اللوجوستيكية والحربية للقوات المسلحة في غالبية دول الجنوب الإفريقي أصبحت لا تمكن الدولة من أن تفرض كامل سيادتها علي كامل ترابها الوطني. فإذا وضع ذلك جنبا إلي جنب مع حقيقة أن دعم القوتين العظميين لتلك الدول أثناء الحرب الباردة كان مسئولا عن إفراز تلك الصورة الزائفة عن سيطرة العديد من دول جنوب الصحراء علي كامل ترابها الوطني, في حين أن تلك السيادة لم تكن في بعض الأحيان تتجاوز حدود العاصمة والمدن الرئيسية فقط, لأمكننا أن ندرك خطورة الأوضاع الحالية. ولا شك في أن ضعف هياكل القوات المسلحة في تلك الدول يرجع في جانب منه إلي الاستعمار الذي حرص علي إنشاء تلك القوات المسلحة في تلك الدول في الحدود التي يستخدمها لقمع حركات التحرر, أي أن المؤسسات العسكرية في تلك الدول كانت مؤسسات استعمارية في الأساس. الملمح الرابع ويتمثل في تراجع الدور العسكري الفرنسي في قارة إفريقيا. فحتي نهاية الستينيات من القرن العشرين, سيطرت فرنسا علي22 دولة إفريقية من أصل53 دولة عضوا في منظمة الوحدة الإفريقية, حيث كان استقلال تلك الدول عن فرنسا استقلالا اسميا فقط ولكن ظلت فرنسا هي الحامية والضامنة للأوضاع الداخلية للدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية. إلا أنه منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين, بدأت فرنسا في التركيز علي شئون الوحدة الأوروبية, بالإضافة إلي بدئها عام1997 تطبيق نظام التطوع والتخلي عن نظام التجنيد, مما أعجزها عن توفير العنصر البشري الكافي لقواعدها في إفريقيا وإذا كانت تلك هي بعضا من ملامح وجه العلاقات الدولية الجديد في مطلع الألفية الثالثة, والتي أدت ضمن ما أدت إلي تفاقم ظاهرة التمرد والحركات الانفصالية جنوب الصحراء, فإنه توجد ملامح أخري إفريقية شديدة المحلية أدت بدورها إلي تفاقم هذه الظاهرة. من بين تلك الملامح المحلية الإفريقية التقاليد التي تنتشر في بعض مناطق القارة التي تجعل من السهل علي الرأي العام بها القبول بفكرة عصيان الحكومة المركزية. فمن لديه السلاح والمال والعصبية القبلية والحلفاء, وليس من لديه الحق بالضرورة يكسب الحكم!. أيضا, فإنه مما يضاعف من خطورة تلك الظاهرة, غياب الديمقراطية الحقيقية مما يؤدي إلي لجوء العديد من فصائل المعارضة إلي حمل السلاح والسعي للاستيلاء علي السلطة التي يحتكرها الحاكم في العادة لنفسه وعشيرته. وعندما تحمل المعارضة السلاح, فإن أول ما يختفي من الدولة النظام والقانون وتتأجج طموحات الانفصال!. ملمح محلي إفريقي ثالث, ويتمثل في أن القوات المسلحة في العديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء ليست لديها حدود واضحة تفصل بين مهام الأمن الداخلي والخارجي, بالإضافة إلي تدهور الأوضاع في القارة, وعدم قدرة دولها علي إدارة رشيدة لمواردها الطبيعية. ملمح رابع, ويتمثل في أن العديد من دول القارة جنوب الصحراء لا تلتقي أنظمتها مع شعوبها عرقيا, بمعني أن الأقلية تحكم الأغلبية بدون انتخابات ديمقراطية, تلك الحالة المرضية التي تفرز حالة مرضية أشد ألا وهي عدم التقاء الدولة ككيان معنوي بالأمة عرقيا وسياسيا. ملمح خامس يؤدي لتعدد حركات الانفصال في إفريقيا, ويتمثل في أنه وبعد نصف قرن من احترام دول القارة للاتفاقات وللحدود الموروثة عن الاستعمار, فإنه مع مطلع الألفية الثالثة لم تعد لتلك الحدود والاتفاقات نفس القداسة. وقد كانت البداية مع استقلال إريتريا عن إثيوبيا والذي كان إيذانا بعصر جديد من الجغرافيا السياسية في القارة, ثم الانفصال المتوقع لجنوب السودان عن شماله, ناهيك عن محاولات للدفع بدارفور لنفس الاتجاه, بالإضافة إلي العديد من الحركات الانفصالية في دول أخري مثل أنجولا وكوت ديفوار, وغيرهما. ونأتي إلي العامل الأخير والأهم والذي يتمثل في إقلاع العديد من دول جنوب الصحراء عن دورها الاجتماعي مما أدي في مجتمعات قبلية إلي انتهاك خطير للعقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع, وهو الذي أدي بدوره بقطاعات كبيرة من المجتمعات القبلية إلي أن تقلع عن التزاماتها وولائها للأنظمة الحاكمة, وبالتالي إلي قيام تنظيمات عسكرية وشبه عسكرية تقوم بدور الدولة فيما يعرف باسم الدولة الظل! الشاهد, أنه بامتزاج كل من الملامح التي جدت علي وجه العلاقات الدولية في عالم الألفية الثالثة, جنبا إلي جنب مع الملامح التي تميز وجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في دول جنوب الصحراء الإفريقية, فإنه يجب ألا نعجب إزاء رخاوة البني السياسية للعديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء, بل وتوقع أن يزيد عدد الدول الإفريقية خلال العقد المقبل من53 دولة إلي60 دولة علي غرار انقسام الخلايا أحاديا...!