يفتتح الأسبوع المقبل في القاهرة, المؤتمر الخامس للرواية العربية الذي لا أستطيع حضوره بسبب حصار الثلج في اوروبا, إلا أنني أريد تحية هذا الجهد الذي تبذله وزارة الثقافة في مصر, ومجلسها الأعلي للثقافة ولجنة القصة في المجلس. ولابد من التأكيد علي أن فنون السرد الروائي تزداد قوة ورواجا واستقطابا للقراء والكتاب والناشرين علي مستوي العالم بأجمعه, رغم دعاوي عبثية تظهر وتختفي تتحدث عن موت الرواية, آخرها كان مصدرها كاتب عربي من إحدي القري والنجوع, رأي أن يلفت الانتباه إليه بكلمة يرمي بها عكس التيار, تقول هي الأخري بموت الرواية. المهم أن الرواية بألف خير في عصرنا الحديث, والعالم صار بالتأكيد واعيا بأهمية هذا الجنس الأدبي, ويضعه علي رأس جميع الاجناس, ربما أكثر من أي وقت مضي, نعم عرفت الرواية محطات كثيرة منذ فجر التاريخ, لا يمكن الإحاطة بها وإنما فقط الوقوف عند أبرزها, كما حدث في القرن التاسع عشر عندما ظهر عباقرة المبدعين لهذا الفن الأدبي الذين دشنوا مرحلة من مراحله الذهبية وأسسوا تراثا خالدا له من أمثال ديستويفسكي وتولستوي وديكنز وهنري تجيمس وفلوبير وبلزاك, وعرف النص الأول من القرن العشرين مجددي هذا الفن من أمثال بروست وجيمس جويس وفرجينيا وولف وأرنست هيمنجواي ونوابغ من أمثال زفايج وكازانتزاكس, ولم يكن الاسهام العربي بعيدا عن هذه الصورة بدءا بالراحل العظيم توفيق الحكيم, ثم الراحل العبقري نجيب محفوظ الذي قاد المسيرة بالنسبة لهذا الفن في هذا الجزء من العالم, هذا هو الماضي القريب, الذي له امتداد في زمن قديم يبدأ مع بداية التدرج الحضاري, وما أوديسه هوميروس والياذته ثم انيادة فرجيل وملحمة جلجامش وما كتبه المصري القديم علي أوراق البردي مثل كتاب الموتي وشكاوي الفلاح الفصيح, مرورا بألف ليلة وليلة والسير الشعبية المنبثقة من عمق الشعب مثل السيرة الهلالية وذات الهمة وسيف بن ذي يزن, وصولا الي إنجاز عباقرة من أمثال ابن طفيل في حي بن يقظان وابن النفيس في الرسالة الكاملية والمعري في رسالة الغفران وصولا الي دانتي في الكوميديا الإلهية وسيرفانتس في دون كيشوت, وأعمال أخري كثيرة سبقت ظهور الرواية الحديثة. الادباء علي مدي التاريخ هم الناطقون بالحقيقة, يصدق هذا مع أهل الفكر والإبداع علي السواء, بمختلف أنواع الكتابة ومدارس الفكر, إلا أن الروائي صار بالتأكيد يتقدم رفاقه في عالم الابداع ببضع خطوات. وصار يحتل مكانة ربما هي التي كان يحتلها الشاعر قديما, ولعله كان يحتلها في وقت ما كاتب التاريخ, وفي قت آخر المتعاطون للفلسفة, والروائي الآن هو وحده الذي يقف في مقدمة الصف كأكثر المعبرين عن العصر, المفصحين عن حقيقته, مسجلا سبقه عن الآخرين من المشتغلين بالفكر والإبداع لسبب بسيط, هو أن الرواية كجنس أدبي, أكثر قدرة من كل ألوان التعبير الأخري علي أن تحمل فوق كاهلها أحمالا لا تستطيع قصيدة أو مسرحية أو قصة قصيرة أن تقوم بحملها ولا كتابا في الفكر والفلسفة أو في التاريخ والتراجم, وبأسلوب يتميز علي هذه الاجناس ويتفوق عليها, باعتباره قادرا علي أن يستعيد أساليبها وتباين تعبيراتها ويضيفها إلي نفسه ويخلق توليفة فيها شيء من الشعر وايقاعاته, وشئ من الدراما المسرحية وبناء أحداثها وشخصيتها ولغتها الحوارية, بل وشئ من الفلسفة, وشيء من التاريخ وعلوم الأنسنة, مع إضفاء تعابيرها وقدراتها علي التصوير والاطناب والسير عموديا وافقيا بما يكفي لتغطية أي حدث, وتصوير أي تحول اجتماعي أو انقلاب في المفاهيم أو تطور مفاجئ في الاقتصاد ومستويات المعيشة, وسبر النفوس لابطال الرواية بما يكفي لأن تصبح الشخصية في الراية اكبر من الشخصية في الحياة. هناك مفارقات تتصل بفن الرواية لابد من الوقوف عندها. أولها كيف يستطيع ان يكون ناطقا باسم الحقيقة معبرا عنها اقوي تعبير, هذا الكاتب الذي شرطه الأول لانجاز عمله هو ان يعتمد هذا العمل علي الخيال, لأن اي سرد روائي لا يكون منبثقا من خيال الكاتب, يدخل في دائرة غير دائرة السرد الروائي, ليكن تاريخا او سيرة ذاتية او ترجمة لحياة إنسان, ولكنه ليس عملا روائيا, وصدق هذه المقولة في قوة التعبير عن الحقيقة والحديث باسمها يأتي من أن الكاتب الروائي عبر هذا اللون الأدبي يكشف لنا حقيقة أنفسنا, ويسعي لتعريفنا بأدق الذبذبات الصادرة عن عمق اعماقنا, والتي لا يستطيع التقاطها جهاز السماعة في يد الطبيب, ولا جهاز الألترا صاوند أو الأشعة في مختبره, لانه لا يستطيع إلا قلب الانسان وحواسه ومشاعره, وأعني هنا الكاتب, أن يلتقط هذه الذبذبات, وعن طريق سماعة أخري واشعة اخري, هي بصيرته والمواهب التي أودعها الله في عقله ووجدانه, وبهذه البصيرة والموهبة يستطيع ابتكار احداث أكثر أصالة وعمقا مما نراه في الواقع, وتصوير شخصيات خيالية أكثر صدقا من شخصيات الواقع, ولهذا يبقي السيد أحمد عبد الجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ, الأب الذي لا يموت من اباء الحارة المصرية خالدا خلود الفن الذي صنعه. في حين يموت كل الآباء من أبناء عصره, بل إن الحارة نفسها يمكن أن تصبح تاريخا غابرا بائدا, إلا حارة نجيب محفوظ فإنها تبقي عائشة متي الدهر لا يلحقها التلف أو البلي, وللحديث صلة.