لا يزال الدعم المقدم للمواطن- كما قلت الأسبوع الماضي- بدون كيان معلوماتي قومي متكامل يدعمه ويرشده, ويضمن وصوله لمستحقيه, لكن هذا لا ينفي أن وجود الدكتور نظيف وفريقه من الوزراء ذوي الخلفية التكنولوجية كان له الفضل الأساسي في بذر بذور النظرة المعلوماتية للدعم داخل مجلس الوزراء وأروقة الحكومة الأخري المسئولة عن القضية. وهو ما أدي إلي انتقال هذه النظرة إلي خارج الحكومة, بالقطاع الأكاديمي والبحثي والخاص والأهلي, والنتيجة أنه بدأ يصبح لدينا تنوع في الأفكار والتوجهات المتعلقة بدور التكنولوجيا في قضية الدعم وفي بناء الكيان المعلوماتي القومي الذي نحلم بأن ينشأ ليدعم الدعم, ويتجسد هذا التنوع في مدرستين: الأولي صاحبتها وزارة الدولة للتنمية الإدارية, وهي مدرسة مدعومة بتجربة تطبيقية علي الأرض, والثانية صاحبتها كلية الحاسبات وتكنولوجيا المعلومات بجامعة الأهرام الكندية وانتهت بفكرة إبداعية جاهزة للتطبيق. ويمكنني القول إن مدرسة التنمية الإدارية اختارت أن تضع تكنولوجيا المعلومات في خدمة الدعم عبر استراتيجية تقوم علي التوظيف الرأسي القطاعي, أي تأخذ شريحة من الدعم وتقوم بإعادة صياغة دورة تخصيصها وتوزيعها علي المواطنين لتصبح معتمدة اعتمادا أساسيا علي تكنولوجيا المعلومات من بدايتها لنهايتها, وبعد النجاح في التعامل معلوماتيا وتكنولوجيا مع الشريحة الأولي يتم تغيير شريحة ثانية من الدعم لتصبح هي الأخري معتمدة علي تكنولوجيا المعلومات, وهكذا يتم إدخال التكنولوجيا في شرائح الدعم, شريحة تلو الأخري رأسيا, بطريقة تشبه تثبيت الأعمدة واحدا بجوار الآخر, إلي أن يتحول التثبيت الرأسي إلي كيان يتمدد أفقيا مع الوقت, ينشر التكنولوجيا عرضيا في الدعم بكامله. وعند تنفيذ هذه الاستراتيجية عمليا وقع اختيار الوزارة علي المواد التموينية المدعومة الموزعة عبر البقال التمويني, كأول شريحة من الدعم يمكن توظيف تكنولوجيا المعلومات في تحسين وضبط دورة توزيعها علي المواطنين, وبادرت الوزارة إلي تصميم وتنفيذ بنية معلوماتية متكاملة لتحقيق هذا الهدف, وفقا لاستراتيجية الاقتراب الرأسي, واختارت أن تكون البطاقات الذكية هي الوحدة الطرفية أو الأداة التي يستخدمها المواطن في تعاملاته الخاصة بالحصول علي السلع التموينية المدعومة, علي أن يتم تصميم هذه البنية المعلوماتية بطريقة تأخذ في اعتبارها التوسع مع الوقت لتستوعب شرائح أخري من الدعم, وكذلك تصميم البطاقة الذكية بطريقة تجعلها قابلة لاستيعاب شرائح أخري من السلع والخدمات المدعومة مستقبلا, وقد حققت التجربة نجاحا لمسه الجميع, ويكفي أن نعلم مثلا أن تطبيق التجربة جعل الدولة تصل بالدعم التمويني إلي60 مليون مواطن بدلا من48 مليونا, دون أن تتحمل أية تكاليف إضافية, وإنما تمت إضافة هذه الملايين الجديدة نتيجة الدور الذي لعبته التكنولوجيا في تخفيض المفقود والتالف في الدعم وترشيد وصوله لمستحقيه. وبالطبع فإن هذه الإستراتيجية يترتب عليها بعض الخصائص أو السمات التي لابد وأن تظهر في البنية المعلوماتية المستخدمة في تنفيذها, لعل من أبرزها أن التطبيقات والبرامج والخدمات المقدمة تتسم بقدر عال من التخصصية والتفرد في خدمة نوع بعينه من الدعم والأطراف المرتبطة به, وعدم الانفتاح علي غيره إلا بعد إجراء تعديلات وإضافات مؤثرة وربما عميقة بعض الشيء علي البنية المعلوماتية المستخدمة, ومن هذه السمات أيضا التمهل الواضح وربما الإبطاء في إضفاء المرونة اللازمة علي بعض العمليات والخطوات المرتبطة بتوزيع الدعم. لكن في المقابل فإن هذه الإستراتيجية تحقق سرعة واضحة في تحقيق نتائج علي الأرض تتماشي مع احتياجات ملحة تفرضها ظروف الأزمة ومع هدف الحكومة في الوصول لإنجازات ملموسة تنعكس آثارها إيجابيا علي المواطن والدولة معا. أما المدرسة أو الفكر الخاص بجامعة الأهرام الكندية فتم انجازه من خلال مشروع للبحث والتطوير والابتكار كانت فيه الجامعة هي الطرف الأساسي, بمشاركة من معامل شركة أورانج بالقاهرة, وصندوق التطوير والبحث والابتكار بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي, وبتعاون مع وزارتي التنمية الإدارية والتضامن الاجتماعي, وبتمويل من الاتحاد الأوروبي, وضم المشروع حوالي ثلاثين باحثا من مختلف التخصصات برئاسة الدكتور جمال درويش عميد كلية الحاسبات وتكنولوجيا المعلومات بجامعة الأهرام الكندية. تتبني جامعة الأهرام الكندية وشركاؤها إستراتيجية الاقتراب العريض أو إدخال تكنولوجيا المعلومات في قضية الدعم بطريقة أفقية يمكنها استيعاب كل شرائح الدعم علي صعيد النوع أي دعم تمويني ودعم وقود ودعم أهلي وغيره بشكل متزامن من الخطوة الأولي, ولكن مع التدرج في استيعاب الحجم أو الكم مع الوقت, بحيث يتم إضافة طبقات أو شرائح من الفئات الحاصلة علي الدعم طبقة فوق أخري, بما يؤدي إلي تراكم, يستمر ويرتفع مع الوقت حتي يتحول إلي بناء رأسي, ينشر التكنولوجيا رأسيا في الدعم بكامله. في هذه الاستراتيجية اختارت جامعة الأهرام الكندية وشركاؤها الاستفادة من كل البنية التحتية المتاحة في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بالبلاد استفادة قصوي لكي تبني وتنشر الاقتراب الافقي من الدعم, وأبرز ما يدلنا علي ذلك أن الجامعة ركزت علي التليفون المحمول كوسيلة أساسية طرفية في إدارة العلاقة بين مقدمي الدعم ومستحقيه, لكنها في الوقت نفسه اعتمدت مفهوم' المعايير المفتوحة' في تصميم وبناء وتشغيل الكيان المعلوماتي المقترح لإدارة الدعم, بما يجعل منه كيانا' محايدا' يقبل الارتباط والتكامل مع جميع الأطراف الموفرة للدعم سواء كانت حكومية أو أهلية, ومع المستحقين للدعم من جميع الفئات, ومع الأنظمة والتكنولوجيات وشبكات الاتصالات وقواعد البيانات القائمة المرشحة كأدوات محتملة في إدارة الدعم تكنولوجيا. وكما هو الحال في مدرسة التنمية الإدارية واستراتيجية الاقتراب' الرأسي', فإن استراتيجية الاقتراب الأفقي لجامعة الأهرام تفرض العديد من السمات علي الكيان المعلوماتي أو البنية المعلوماتية المستخدمة في التنفيذ, وفي مقدمة هذه السمات أن الاقتراب الأفقي يتطلب تعاونا وعملا جماعيا من جميع الأطراف ذات العلاقة بقضية الدعم في أشياء كثيرة, منها علي سبيل المثال لا الحصر التعاون في بناء وفتح قواعد البيانات القومية الخاصة بالدعم علي بعضها البعض, لتعمل بصورة جماعية كقاعدة تخدم التوظيف الأفقي العريض للتكنولوجيا, وتحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية عليا واضحة لا لبس فيما تفرضه من عقوبات قاسية علي من لا يلتزم به, وهذا شيء لا يزال صعب المنال, وربما لم ينضج المناخ العام بالدرجة التي تجعله سهل التحقق, كما انه عند التطبيق الفعلي ربما يطول الوقت اللازم للحصول علي نتائج يسهل تلمس نتائجها بالصورة التي تحققت مع بطاقات التموين الذكية, كنتيجة لانتشار النتائج أفقيا في المجتمع وليس تركزها رأسيا في شريحة واحدة من الدعم. وفي المقابل فإن الاقتراب الأفقي يحمل إمكانات واعدة عديدة تساعده علي التحقق, لعل في مقدمتها استثمار التليفونات المحمولة في التواصل بين مقدمي الدعم ومستحقيه, وهو ما يوفر أرضية واسعة تنتشر فوقها مظلة النظام عبر عشرات الملايين من المواطنين, وفي كل المناطق بلا تحديات تكنولوجية صعبة, هذا فضلا عن أن الاقتراب الأفقي لا يجعل هناك شرائح دعم مؤجلة أو مستثناة من التعامل المعلوماتي والتكنولوجي, بل يجعل المواجهة مع التعامل التقليدي المهترئ شاملة, قد تتم ببطء لكنها لا تترك شيئا, ويضاف لذلك أن استخدام'المعايير المفتوحة' في البناء المعلوماتي المقترح للاقتراب الأفقي سيجعل من الممكن تحقيق تكامل سهل وسريع مع النظم والتطبيقات التي قامت التنمية الإدارية ببنائها, وهي تقترب رأسيا من المشكلة. ومن أجل الوصول لتصور واضح وأكثر نضجا لهذه الاستراتيجية اختارت جامعة الأهرام الكندية وشركاؤها طريق البحث الإبداعي من أجل ابتكار وإبداع نموذج لكيان معلوماتي أو منظومة معلومات قابلة للتطبيق وتحظي بقبول الأطراف المعنية بالقضية, وقد تم بالفعل التوصل إلي هذا الكيان المعلوماتي أو النظام الذي يصفه الدكتور جمال درويش بأنه تجاوز كونه نموذجا أوليا إلي مرحلة الدخول في النموذج ما قبل الصناعي أو شبه الصناعي الجاهز للتطبيق. هنا نحن أمام مدرستين تتسمان بالتنوع في التفكير والتوجهات, لكن ليس بينهما اختلافات أو خلافات, بل ستكونان علي طريق التكامل والترابط إذا ما تقرر في يوم ما الجمع بينهما في التعامل مع القضية, وفي هذه النقطة يمكن القول إن وزارة التنمية الإدارية كانت بمعايير التوقيت والمهام الموكلة إليها موفقة إلي حد كبير في اختيار استراتيجية الاقتراب الرأسي من القضية, إذ كان من المتعين أن تحدث اختراقا في الوضع الراكد الموروث منذ خمسة عقود أو يزيد بتجربة ناجحة تلفت الانتباه وتبذر بذور الفكرة في القطاع الحكومي بأكمله وبكل مستوياته, وهذا ما تحقق ونال استحسان القيادة السياسية, لأنه لم يكن سهلا أن يصبح لدينا بيانات أكثر من أحد عشر مليون أسرة مسجلة في قاعدة بيانات وموزعة علي بطاقات ذكية. وبالطبع لا يجب أن تقف طموحاتنا عند الاقتراب الرأسي, إذ لابد أن يتحول النجاح الذي تحقق رأسيا إلي طريق يغطي المجتمع أفقيا ويستوعب كل شرائح الدعم الحكومي, وكل الدعم الأهلي الذي يعتبر إلي الآن منطقة رمادية غير معلومة بالكامل لا للدولة ولا للناس, وهذا ما يمكن أن تلعب فيه استراتيجية الاقتراب الأفقي المقدمة من جامعة الأهرام الكندية دورا حيويا مهما يكمل ما قدمته التنمية الإدارية. ولأن مدرسة التنمية الإدارية وتجربتها حظيت من قبل الكثير من التغطية الإعلامية والشرح.. فسوف نتناول الأسبوع المقبل تقديم مدرسة جامعة الأهرام الكندية وشركائها بشيء من التفصيل.