إذا كنا نريد للدعم أن يصل لمستحقيه الحقيقيين علي نحو فعال وسليم, فلا بد من توثيق ورصد كل الأحداث والأفعال والممارسات التي يقوم بها كل المشاركين في دورة تخصيص موارده, ثم توفيره وتوزيعه وتوصيله. ولا سبيل لتنفيذ الرصد والتحليل والمراقبة والتوثيق إلا بوجود آلية أو نظام يترجم الأحداث والأفعال التي تتم إلي بيانات خام مدققة, تنقل لحظيا إلي أوعية لتخزين وتحليل وتصنيف البيانات; لكي تتحول إلي معلومات يستفاد منها في إدارة الدعم, ثم الحكم علي مدي صواب أو خطأ ما يجري, والكشف الفوري عن أوجه الخلل ورصد أماكن وتوقيتات حدوث الفقد في السلع المدعومة, سواء لسوء التخزين أو تدني مستوي المهارات أو الإهمال التلقائي والمتعمد أو الفساد, ورصد مناطق الاختناق ومناطق الوفرة وغيرها, وهذه بعض الجوانب التي تفرض أن يكون لدينا كيان معلوماتي قومي متكامل يدعم إدارة وترشيد وضبط الدعم بجميع أشكاله علي مستوي الدولة. وواقع الحال إننا حتي الآن نفتقد إلي هذا الكيان المعلوماتي المتكامل في إدارة قضية الدعم, علي الرغم من أنه بدأ كما أشرنا الأسبوع الماضي في عام1954, فنحن حينما ننظر إلي البيانات والمعلومات المتعلقة بقضية الدعم علي المستوي القومي بفرعيه الحكومي والأهلي, سنجدها ظلت طوال العقود الماضية في حالة تشتت وتجزئة كاملة, لا يجمعها رابط ولا ينسق بينها نظام مشترك.. كيف؟ قلت الأسبوع الماضي إن قضية الدعم تضم العديد من تيارات البيانات والمعلومات الضخمة التي تتحرك بين مختلف أطرافها والمشاركين فيها, وتشكل المادة الخام الأساسية المسئولة عن مستوي الكفاءة في إدارة الدعم وضبطه وترشيده والسيطرة عليه من مختلف النواحي, وللتذكير والتوضيح أشير مجددا وبسرعة إلي أن هذه التيارات المعلوماتية والأطراف المرتبطة بها هي: تيار بيانات ومعلومات خاص بالجهات المقدمة للدعم, سواء في القطاع الحكومي أو الأهلي. تيار بيانات ومعلومات خاص بالدعم المقدم نفسه, من حيث الحجم والقيمة المادية, والصورة التي يقدم بها سواء منتجات أو سلعا أو خدمات, وتكاليف إنتاجه ونقله وتخزينه وتوزيعه. تيار بيانات ومعلومات خاص بقنوات وأدوات توفير الدعم وتوزيعه وتوصيله لمستحقيه عبر سلسلة التخزين والتوزيع وأساطيل النقل. تيار بيانات ومعلومات خاص بالقائمين علي توزيع وتوصيل الدعم, كآلاف التجار والبقالين والموزعين وأصحاب محطات الوقود وشركات توزيع الكهرباء. تيار بيانات المواطنين المستحقين للدعم, ويتضمن أسماءهم ووظائفهم وأعمارهم ومحال إقامتهم إلخ. تيار بيانات ومعلومات خاص بجهات مراقبة وضبط توزيع الدعم وترشيد إدارته. والحاصل أن هذه التيارات المعلوماتية والأطراف المرتبطة بها لا تتلاقي حتي الآن في نقطة تجميع واحدة, ولا يجري تخزينها ومعالجتها وتجهيزها وتنميطها في منظومة واحدة, بل هي مسئولية الجهات المنتجة أو المستهلكة لها كل علي حدة بصورة منفردة, ونسبة كبيرة منها لا تزال بيانات ومعلومات غير مرصودة حتي من قبل منتجيها ومستهلكيها, وتجري علي أعنتها في ثنايا المجتمع ومؤسسات الدولة دون أن يلتقطها أو يعرفها أحد, ومن ثم وجودها كالعدم, لأن أي معلومة تستمد قيمتها من طريقة ومستوي توظيفها واستخدامها, وما دامت هذه المعلومات غير مرصودة فهي غير موظفة وغير مستخدمة. بعبارة أخري: نحن لدينا منظومة للدعم, تضم أطرافا تقدمه, وقنوات توزعه, وأطرافا تحصل عليه, وأطرافا يفترض أنها تراقبه وتحاول ضبطه وترشيده, لكن منظومة الدعم هذه لا تقابلها منظومة معلومات متكاملة تخدم مختلف الأطراف, وتسهل دورة تقديم الدعم وتسجل ما يدور فيها وترسله لمتخذ القرار. في وضع كهذا فإن متخذ القرار إذ أراد أن يحصل علي تقدير موقف لحالة الدعم بالبلاد الآن, فلن يحصل عليه من مصدر واحد, بل يتعين عليه أن يستقيه من جهات عديدة, كل منها يقدم ما لديه, والأغلب أن حالة تقدير الموقف لن تكون دقيقة معبرة عن الواقع الفعلي, لكل من الدعم الحكومي الأهلي معا, والمستفيدون منهما بين الثمانين مليون مصري.. لماذا؟ لأن المعلومات والبيانات الخاصة بالحالة الراهنة للدعم في الأغلب متدنية الجودة ومشوبة بأحد أمراض المعلومات المعروفة وهي: - التقادم كنتيجة للوقت الطويل المستغرق في جمعها وتهيئتها في صورة تدعم اتخاذ القرار. - التأخير.. وتقديمها لمتخذ القرار في توقيت غير مناسب. - النقص وعدم التعبير عن الوضع بكامله, نتيجة وجود جزء من المعلومات غير مرصود ولا يمكن الوصول إليه بالأدوات والآليات القائمة. - التجزئة والتشظي وعدم التكامل, نتيجة جمع المعلومات من مصادر متنوعة بدون وجود معايير موحدة وملزمة للجمع والفهرسة والتنميط والمعايرة. - تشوه البيانات وعدم دقتها, وهو امر ناجم عن المعالجات اليدوية العديدة للبيانات والمعلومات بما تتضمنه من إجراءات تسمح بحدوث ظواهر عديدة منها التكراريات في البيانات والتعبير عنها بأكثر من طريقة وأخطاء الرصد والتسجيل في الأرقام والأسماء والأماكن إلي غير ذلك. وتقديري أن هذه الأمراض المتغلغلة في البيانات والمعلومات الخاصة بالدعم, تعد من أهم الأسباب التي جعلت من الدعم معضلة مجتمعية عويصة, فكما أوضحت الأسبوع الماضي لا الحكومة راضية عما تدفعه من دعم أو قادرة علي تقديمه لمن يستحق, ولا الناس راضية عما تأخذ, والدولة تتمني أن يقل أو يتلاشي, والمحتاجون يتمنون أن يزيد أو علي الأقل يصل كاملا غير منقوص. ولا شك أن إزالة أو علي الأقل علاج الأمراض المعلوماتية السابقة سوف يخفف بدرجة ملحوظة من حالة التضاغط الحاصلة بين الدولة ومستحقي الدعم, والإزالة أو العلاج لا يمكن أن يتم إلا في وجود كياني معلوماتي قومي أو منظومة معلوماتية تصمم وتنشأ ويجري تشغيلها خصيصا لهذا الغرض. وبشكل مبدئي سريع يمكن القول أن منظومة المعلومات المطلوب إنشاؤها ووضعها في خدمة الدعم تتضمن العديد من المكونات, أهمها علي الإطلاق هو البيانات المطلوب تجميعها وتوليدها وإدارتها علي مدار اللحظة لكي تخضع للتصنيف والتخزين والرصد والتحليل, ثم توظف في إنتاج المعلومات المطلوبة لدعم اتخاذ القرارات وعمليات الضبط والمحاسبة وعلاج الخلل. وتشمل هذه البيانات التيارات السابق الإشارة إليها, مما يعني أن الكيان المعلوماتي الموحد للدعم يجب أن يستوعب أو يضم كلا من: - مقدمي الدعم بنوعيه الحكومي والمدني. - قنوات نقله وتوزيعه. - القائمين علي النقل والتوزيع. - المستفيدين النهائيين. - القائمين علي المراقبة والضبط. - متخذي القرارات العليا المتعلقة به. وإنشاء هذا الكيان يحتاج أولا إلي إطار موحد للتعامل مع هذه النوعيات المختلفة من البيانات والتنسيق فيما بينها, بحيث يتم تصنيفها وتحليلها وفقا لمعايير واضحة تسمح بوجود لغة معلوماتية مشتركة بين جميع الأطراف ذات العلاقة بالقضية, في مختلف الوزارات والهيئات والكيانات الأهلية والمواطنين المستفيدين, حتي لا يتحول الفيض المستمر من المعلومات الواردة من مصادر شتي بصورة متجددة إلي عبء يصعب التعامل معه وتحويلة إلي قيمة حقيقية في الممارسة العملية ميدانيا علي الأرض. وإيجاد هذا الإطار العام يتطلب بدوره وجود بيئة تشريعية إدارية تنفيذية متكاملة تضمن توفير البيانات والمعلومات الأساسية المتعلقة بدورة تقديم الدعم بشفافية علي مدار اللحظة, باعتبار أن ذلك هو حجر الأساس أو العنصر الأهم المطلوب إنجازه من أجل بناء منظومة معلومات الدعم. وإذا ما تم إيجاد البيئة التشريعية الإدارية التنفيذية المسئولة عن توفير هذه البيانات تكون منظومة معلومات الدعم قد تجاوزت مرحلة الهم الأكبر المتعلق بالجوهر والموضوع ودخلت مرحلة الهم الأصغر أو العنصر الثاني المتعلق بالأدوات والأجهزة والمعدات والشبكات والبرمجيات والعمالة المدربة, أو ما يطلق عليه الخبراء البنية المعلوماتية, ويمكن تصور ملامح هذه البنية فيما يلي: - أدوات طرفية لالتقاط وتجميع وبث المعلومات والبيانات ميدانيا طبقا لمقتضيات العمل, وتشمل الحاسبات المكتبية والمحمولة واليدوية وأجهزة قراءة الباركود وبطاقات تحديد الهوية بموجات الراديو والبطاقات الذكية وبطاقات الرقم القومي وغيرها. - شبكة اتصالات ومعلومات واسعة النطاق تربط مختلف أطراف دورة تقديم واستهلاك الدعم الحكومي والأهلي, ويفترض أن تكون بمثابة جهاز عصبي رقمي لنقل وتدوير البيانات والمعلومات المتداولة داخل هذه الجهات بعد التقاطها عبر الوحدات والأدوات الطرفية. - أوعية لتخزين المعلومات المتداولة عبر الشبكة وبين الجهات والأفراد المستخدمين لها, سواء كانوا ينتجون المعلومات أو يستهلكونها أو يراقبونها, وقد تتوزع هذه الأوعية أفقيا أو يجري تجميعها مركزيا في مركز واحد. - قواعد بيانات يتم تركيبها علي أوعية التخزين, وتقوم بفهرسة وتصنيف وتبويب المعلومات والبيانات الواردة إلي أوعية التخزين علي مدار اللحظة وتضعها في صورة قابلة للتحليل والنقل من حالتها الخام إلي معارف تخدم مقدم الدعم والمستفيد منه ومتخذ القرار علي كل المستويات. - سلسلة من النظم والتطبيقات والبرمجيات التي تبني علي قواعد البيانات, ويتم تصميمها والتخطيط لها وتشغيلها وفقا لما تفرضه دورة تقديم الدعم بمراحلها المختلفة والأهداف التي تريد الدولة تحقيقها من وراء إيجاد علاقة عضوية بين المعلوماتية والدعم, ويفترض أن تشكل هذه النظم والتطبيقات واجهات يتعامل من خلالها جميع الأطراف ذوي العلاقة بالقضية. في غضون ذلك تتهيأ الفرصة للاستفادة من عشرات التكنولوجيات والأدوات المتاحة لدي الدولة من أجل ضبط دورة تقديم الدعم وتتبعها ورصد جميع تفاصيلها, ويشكل ما سبق الملامح العامة لما يفترض أنه منظومة معلومات إدارة الدعم قوميا, فماذا حدث علي صعيد التطبيق العملي لهذه الأفكار؟.. إلي الأسبوع المقبل.