ليس واجبا علي المقالات الصحفية أن تتناول مفاهيم فلسفية, فربما كانت واجبة في ساحات أخري يسهل فيها التفصيل والتعقيد, ولا يوجد ما حير الفلاسفة والعلماء قدر ثلاثة مفاهيم لم يتردد مثلها علي اللسان السياسي وهي' الحرية' و'العدالة' و'المساواة'. ولكن هذا التكرار الذي يجعلها من لغة الخطاب يفرض التفكير فيها بإلحاح, فهي لم تعد مجرد جزء من الشعارات السياسية التي رددتها الثورة الفرنسية وما جاء بعدها من ثورات, ولكنها باتت جزءا مهما من السياسات العامة التي علينا أن نناقشها كل يوم. وعندما حقق الاقتصاد المصري بعضا من النمو الملحوظ خلال العقدين الأخيرين, خاصة السنوات الأربع الأخيرة, جري التسارع فورا إلي التساؤل عما إذا كان عائد النمو قد عاد علي الجميع بصورة' عادلة'; وكان الافتراض حينئذ لا يخلو من بدهية أن جميع المصريين أسهموا فيما جري من نمو, ومن ثم وهذه نتيجة منطقية- فإن العائد يجب توزيعه بطريقة عادلة. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك, وكان هناك مصريون عملوا بكد واجتهاد, وكان هناك آخرون لم يفعلوا شيئا علي الإطلاق, ومع ذلك كانوا هم أول من تحدث عن عائد النمو. وبالنظرة الكلية للاقتصاد المصري كانت هناك قطاعات متقدمة وقائدة لتحقيق معدل النمو, كما كانت هناك قطاعات أخري جاذبة إلي الخلف بل أنها تحقق نموا سلبيا, أو باختصار خاسرة. وما جري في قطاعات مختلفة, حدث في كل الوحدات الإنتاجية العامة التي إذا ما حققت ربحا أو نموا وجدت نفسها تواجه قضية البحث عن' العدالة' في توزيع العائد بين من يعمل, ومن لا يعمل, والمجتهد والمتكاسل, والعالم والجاهل, والموهوب وصاحب الملكات الخاصة علي الإبداع والتجديد ومن بقي علي حاله طال الزمن أو قصر. مناسبة هذا الحديث كله كانت تلك الندوة التي عقدها' مركز العقد الاجتماعي' التابع' لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار' التابع بدوره لمجلس الوزراء المصري حول' العقد الاجتماعي الجديد: نحو تكامل السياسات الاقتصادية والاجتماعية' يومي18 و19 يناير الجاري. وبالطبع فإن هذا المقال لن يذهب بعيدا في تفاصيل الندوة ولكن في تلك المهمة التي أنيطت بي لإدارة جلسة حول' مرصد عدالة التنمية: من الفقر إلي الأمن الإنساني الشامل' شارك فيها مجموعة متميزة من المتخصصين والمسئولين والمهتمين. ومن لحظة البداية وحتي انتهاء وقت الجلسة كان مفهوم' العدالة' غائما هائما فوق الرؤوس حتي ولو بدا أحيانا بدهية من البدهيات, ولكن الظاهر كان يخفي وراءه ظلما كبيرا. كان تعريف' التنمية' أكثر سهولة من' العدالة', فهي عملية' توسيع الخيارات' أي أن ارتفاع القدرات المادية والفكرية يعطي إمكانيات أكثر للتحرك في اتجاهات متعددة. فالتنمية أو الزيادة في العلم أو الثروة يعطي للإنسان والمجتمعات مجالات أوسع بالضرورة, ولكن' العدالة' التي لم يجر تعريفها أصبحت فورا مقاومة' الفقر' حتي بات' مرصد عدالة التنمية' هو مجموعة المؤشرات الخاصة بالفقر والحرمان. والحقيقة أنه لا بأس أبدا في مجتمع من المجتمعات أن تجري عمليات متعددة لمقاومة الفقر, والحد من آثاره, باعتبار ذلك مسألة أخلاقية من ناحية, وضرورة لسلامة المجتمع واستقراره من ناحية أخري, بل إنها يمكن أن تكون واحدة من دعائم توسيع السوق الاقتصادية بأشكال مختلفة. ولكن ربط ذلك بالعدالة قد يحتاج لمناقشة مستفيضة خاصة لو جري توقيعها علي الواقع المصري; فالأصل في العدل أن كل إنسان يحصل علي ما يستحقه جزاء عمله أو فكره أو اجتهاده أو مشاركته في عملية إنتاجية أو خدمية من نوع أو آخر. ولكن هذا الأصل يختفي فورا حال اختلاط معني' العدالة' بالمساواة حينما يصير من حق الجميع الحصول علي جزء من عائد التنمية بغض النظر عن دورها في تحقيقها. المشكلة الأكبر تحدث عندما تتعقد المسألة كلها ساعة توزيع عائد التنمية الذي يعطي للأقوي والأكثر عددا, وطوال التاريخ المصري الحديث حصل شمال مصر علي الجزء الأكبر من عائد التنمية بينما حصل الجنوب علي وعود مستمرة بالاهتمام بإقامة العدل والميزان. وهنا تصبح القضية كلها صعبة لأنها تتحدث عن عدالة توزيع عائد التنمية, ولكنها لا تتحدث عن توزيع عائد العدالة حيث يحصل من لم يشارك في تحقيق الثروة علي قدر منها يزيد علي آخرين لم يسهموا في تحقيقها أيضا. والأخطر من ذلك كان جزءا من الثروة هو من طبيعة الميراث العام للشعب كله, ومن' العدل' بالطبع أن يحصل المواطنون علي العائد من هذه الثروة, ومع ذلك فإن هناك مسألة أن هذه الثروة هي ميراث عام لكل الأجيال المصرية الحالي منها والآتي; وعندما قام بعض المصريين بتجريف الأرض خلال عقد الثمانينيات بسبب سياسات كانت تجعل سعر المحاصيل الزراعية أقل من ثمن التراب, كانوا يحرمون أجيالا قادمة من حقها المشروع في أرض للبلاد تكون صالحة لإنتاج الغذاء. وبهذه المناسبة هل يمكننا إدخال' العدالة البيئية' ضمن المعادلة كلها حيث لا يجوز تدمير بيئة وطن لتحقيق نفع, أو ما يتصور أنه نفع, لجيل فتأتي أجيال أخري لتجد بلدا تلوثت أنهاره, ولم يعد الهواء فيه قابلا للاستنشاق ؟!. هنا فإن' العدالة' واعتدال الميزان تجعل التنمية ليس توسيع الخيارات أمام الأجيال الحالية فقط, وإنما أيضا أمام الأجيال المقبلة أيضا, وهي مسألة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التراكم الرأسمالي, وزيادة حجم الثروة في المجتمع بحيث تجد الأجيال المقبلة وطنا يستحق العيش فيه. ولكن الموضوع كله ليس الأقاليم والأجيال فقط, ولكن علاقة الثروة بأمرين: أولهما عامل الندرة; وثانيهما عامل التطور التكنولوجي. السؤال هو هل يحق- والحق هنا ملتصق تماما بالعدالة- أن يحصل مذيع تلفزيوني أو لاعب كرة قدم أو ممثل سينمائي أو مغن بالطبع من الرجال والنساء-علي ملايين من الجنيهات أو الدولارات, بينما لا يحصل عالم في الفيزياء النووية في بلد لم يبن بعد مفاعلات نووية إلا علي مرتب متواضع. وفي دول أخري فإن مثل ذلك يعد من الأمور الطبيعية حيث الندرة والموهبة الخاصة تعطي لصاحبها مميزات اقتصادية كبيرة, ولكن الثقافة السياسية أو الاقتصادية في مصر ليست كذلك حيث المقارنات مستمرة, والحيرة خالدة, والتساؤل جار حول الكيفية التي تحصل بها' الراقصة' علي ما لا يحصل عليه آخرون في المجتمع, يحدث عادة أنهم يدعونها علي حفلات الزفاف لقاء أجور متميزة بكرم زائد. التطور التكنولوجي يعطي عامل الندرة بعدا جديدا, فمع كل تطور تكنولوجي جديد توجد مجموعة صغيرة تعرف أسراره, وبالنسبة لشركات الدواء الكبري فإن تحقيق اكتشاف جديد يعطيها بلايين من الثروة التي يستمتع بها حملة الأسهم, والإداريون, والعلماء. ولكن حتي دون تحقيق اكتشاف جديد, ومع تحقيق نوع من المهارة في التعامل مع نوع من التكنولوجيا فقط, فإن ذلك يطرح قضية' العدالة' في ثوب جديد. وحتي لا يدخل الموضوع في سلسلة من الألغاز فإن واحدة من شركات الأهرام التي تستخدم تكنولوجيا صناعية تقليدية حققت أرباحا خلال العام الماضي تزيد قليلا علي المليون جنيه بعدد من العاملين يصل إلي300 فرد; وكان مدهشا أن أقل من عشرة من العاملين حققوا نفس الربح في شهر واحد من خلال وضع الإعلانات علي موقع الأهرام علي الإنترنت. كيف يمكن تحقيق' العدالة' في هذه الحالة في الأجر والحافز وتوزيع الأرباح; وإذا تصورنا ضرورة المساواة بين الجميع طالما أنهم يعملون في مؤسسة واحدة ونفس ساعات العمل, فكيف ندفع العاملين للدخول في مجالات غير مطروقة وإتقان مهارات جديدة, وننشر تكنولوجيات حديثة, وهل يكون في ذلك عدالة للمؤسسة ذاتها وتطورها وتحديثها؟ مثل ذلك لا يدخل دائما في دائرة الألغاز والأحاجي, والمجتمعات المختلفة وجدت دائما حلا أو آخر, وهناك دائما تقاليد وقرارات ولوائح سابقة ولاحقة تضبط الأمور بطريقة أو أخري, ولكن التساؤل عن العدالة يظل قائما, والإلحاح بشأنها يظل مستمرا. وفي كل المجتمعات, والمؤسسات, فإن الجمع ينقسم إلي مدرستين للعدالة: واحدة تريد التوزيع الفوري للعائد دون اعتبارات لحقوق الأجيال القادمة أو للتميزات الموجودة بين العاملين أو حتي متطلبات التحديث الضرورية لاستمرار المؤسسة من الأصل وحجتها دائما الحفاظ علي الاستقرار; والثانية تري أن العدالة تحدث بمقدار ما يقدم, وحسب عامل الندرة, واعتبارات الموهبة, وما يحقق التراكم الرأسمالي أو الثروة في النهاية. الجماعة الأولي كثيرا ما ينتهي بها الحال إلي ذبح الدجاجة التي تبيض ذهبا, وكان ذلك هو ما جري للمؤسسات الإنتاجية العاملة في الدول الاشتراكية, وانتهي الاستقرار الذي حصلت عليه إلي ركود شامل; والثانية كثيرا ما تترك المؤسسة التي تعمل بها للحاق بالقطاع الخاص, وبعض منها يري أن أرض الله واسعة فيترك الوطن كله, أو يصبح ما يرونه ثقافة شاملة فتصير الدولة واحدة من مجموعة العشرين. الندوة المشار إليها, وربما مركز العقد الاجتماعي كله, هو محاولة للبحث عن توازن صعب بين مفاهيم مختلفة من العدالة, ولكن المشكلة علي الأقل في الجلسة التي حضرتها وأدرتها- لم يكن فيها توافق علي الحالة المصرية التي نتحدث عنها. وبينما طارت الأوصاف حول حالة الفقراء, ونوعية الأغنياء, وحجم ومقدار الطبقة الوسطي وعما إذا كانت تتآكل أو تنهار أو يظهر في النهاية أنها تتوسع وتكبر وتحصل علي62% من الناتج المحلي الإجمالي; فإن الندوة طرحت قضايا كبري آن أوان التصدي لها بشجاعة.