كنا مجموعة من الأصدقاء مسلمين علي مسيحيين, كتابا وفنانين وصحفيين وإعلاميين وأطباء وصيادلة وأصحاب مناصب رفيعة ورجال أعمال, لم نلتق منذ هل الصيف الرهيب علينا وأنزلت بنا شمسه بعضا من جوفها الملتهب, فاكتوينا بنارها, وفر أكثرنا ناحية السواحل ولجأ إلي البحر. عدنا وبالرغم من الأشواق كلمات الود الدافئة فإن أن القلق كان يصاحبنا ونضحت ملامحنا بخوف حقيقي علي الوطن وسلامته..فالخطر بات من الداخل, من أنفسنا, فهل أصيبت حصوننا بالسرطان الذي تهاجم فيه الخلايا بعضها بعضا؟! وما كدنا نجلس حتي فرض السؤال الملح وجوده الغليظ: إلي أين تأخذنا هذه الفتن الطائفية التي يتسارع اشتعالها يوما بعد يوم؟ قال أحدنا: هذه المرة مختلفة إلي حد كبير. أولا: نزل إلي الساحة رجال دين كبار يشغلون مناصب رسمية بأقوال حارقة مثيرة للشقاق, وكان الأمر مقصورا فيما مضي علي العامة وأنصاف المتعلمين والمتطرفين والمتعصبين غير الرسميين حتي لو كانوا دعاة مسلمين أو كهنة خارجين علي الكنيسة. ثانيا: أيضا هذه أول مرة يحاول البعض أن يذيع تاريخا مزورا لمصر علي الملأ, كما لو أن لمصر تاريخ غامض يحق لكل واحد أن يرويه بطريقته..فمصر لم يبدأ تاريخها لا بالمسيحية ولا بالإسلام, مصر دولة متعددة الديانات قبل ميلاد المسيح بثلاثة آلاف سنة.. والمدهش أن بها الآن ما يقرب من ألفي قرية بعضها ذات أسماء فرعونية, يسكنها مصريون مسلمون فقط, وقطعا لم يكونوا ضيوفا قدموا مع الإسلام ووجدوا هذه القري خالية علي عروشها أو مهجورة فاستوطنوها, وإنما هم من أهلها الأقباط الذين أسلموا لأي سبب من الأسباب. ثالثا: هذه أول مرة يتدخل العامة وينظمون مظاهرات واحتجاجات علي تخمينات أوشائعات أو معلومات غير مؤكدة عن السيدة كاميليا, ويزعمون أنها أسلمت ثم أجبرت علي العودة إلي مسيحيتها وأنها محبوسة تحت سيطرة الكنيسة..أي يريد المتعصبون الكبار أن يجعلوا من العامة لاعبا أساسيا ضاغطا في صراع الأسلمة والتبشير. سألت: ليست جميعها جديدة..كانت توجد كتابات وأقوال مسيئة تؤذي مشاعر المسيحيين, وكانت فيه مسرحية أنتجت في كنيسة بالإسكندرية تستفز مشاعر المسلمين.. أجاب: كلها خارج المؤسسة الرسمية, فلم نسمع من قبل عن مسئول في الجامع الأزهر أو في الكنيسة يهاجم دين الآخر في مؤتمر عام أو ندوة أو يشكك فيه..ولم يتحدث أنبا علنا عن ضيافة المصريين المسلمين علي أهل البلد الأصليين, مع أن حكاية الضيافة تتردد كثيرا في السر باسم الغزو والاحتلال! سأل واحد منا: وما الذي استجد فدخلت هذه العناصر الثلاثة الجديدة إلي الساحة؟ أجاب أستاذ تاريخ من الجالسين: إن نفرا من المصريين يتصور إن استغلال ضعف المجتمع الحالي فرصة لا تعوض للدخول مع الدولة في مفاوضات والحصول علي مكاسب وامتيازات, باستخدام نظرية الدكتور هنري كيسنجر فيلسوف السياسة الخارجية الأمريكية في حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين, وهي نظرية في التفاوض وحل الصراع والأزمات, وتقوم علي صناعة موقف صدام ساخن يتجاوز تهديده الأفراد المنغمسين في الصراع, ثم يبدأ التفاوض بعدها علي تعديل أوضاع مرفوضة أو غير مقبولة لأي سبب من الأسباب, علي أساس أن الموقف الساخن يصنع ظروفا جديدا ويفرض نوعا من المرونة علي طرفي الصراع. قلت: أتصور أن هذا هو جوهر اللعبة السياسية في أي مجتمع لتعديل أوضاع أو فرض واقع جديد أو الحصول علي مكاسب. قال: اللعبة سياسية لها رجال سياسة وأدوات سياسية, ومعروف حدودها بالرغم من مرونة قواعدها, لكن إذا لعبها رجال الدين صارت مثل الألعاب الحرة, لا حدود ولا قواعد, وعند اللعب بالدين فكل شئ وأي شئ وارد مهما بدا مستحيلا, وقد حدث هذا في بعض مناطق الصعيد وراحت أرواح بريئة فيه. وطار سؤال متجها ناحيتي: لكن المسيحيين المصريين يشكون من أوضاع مؤلمة لهم ومن حقهم ان يطالبوا بتعديلها. أجبت: قصص إجبار فتيات مسيحيات بالخطف والاغتصاب علي هجر دينهم إلي دين آخر, بقدر ما فيها من المبالغة المقصودة فيها من الإهانة لدين عظيم..فالناس لا تترك أديانهم لأديان خاطفيها أو مغتصبيها.. وعموما سلوك أي إنسان مهما كان ليس حجة علي دينه, فإذا غير إنسان ملته من الإسلام إلي المسيحية فهذا ليس حجة علي الإسلام, وإذا غير مسيحي دينه إلي الإسلام فليس حجة علي المسيحية, لكن الأزمة أن كل طرف مشغول بدين الآخر أكثر ما هو مشغول بدينه, يفتش عن نقط الضعف من وجهة نظره في دين الآخر ويعظمها وينفخ فيها ويكتب عنها, حالة من السيادة الدينية تلبست الجميع, كل طرف يريد أن يثبت أن دينه الأفضل, كما لو أننا في مباراة أو منافسة بين الأديان. ولا يستطيع أن ينكر أي منصف أن ثمة تمييزا ضد المصريين المسيحيين, لكن ليسوا هم وحدهم الذين يتعرضون له, بل أن أغلب المصريين ضحايا لتميز ما, بل يكاد يكون التمييز هو سمة أساسية في علاقات المجتمع المصري علي أي مستوي, الطفل الذكر علي حساب الطفل الأنثي, والرجل علي حساب المرأة, الأغنياء علي حساب الفقراء, البهوات علي حساب المهمشين, أصحاب الواسطة علي من لا ظهر لهم, المحاسب علي حساب البسطاء, أندية القاهرة عل أندية الأقاليم..حالة عامة وعلينا جميعا أن نعالجها من منظور ثقافة وطنية وليس من منظور ثقافية طائفية. فسأل أحدنا: وما هو الحل؟! جاءت الإجابات متشابهة: إصلاح سياسي لأحوالنا دون استغلال الدين في دولة مدنية قوية, القانون وحده هو السيد علي جميع الرقاب بلا استثناء.