علمونا في كلية الاقتصاد وحذرونا من ثنائية الاقتصاد أي أن يكون في البلد اقتصادان أحدهما متقدم له أصحبه وفلوسه ونفوذه والثاني متخلف ينتج سلعا رديئة ويختفي عن عيون الدولة. حذرونا من ثنائية الاقتصاد وانقسام اقتصاد البلد الي اقتصادين بدلا من اقتصاد واحد موحد.. ولكن يبدو أن الواقع الآن قد اختلف كثيرا ليس فقط في الاقتصاد ولكنه في كثير من مناحي الحياة والتي يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي أمامها بل نسعي الي تجميع هذه الانقسامات لتكون مصر واحدة قوية واعدة. حتي الإدارات الحكومية لم تسلم من الانقسامات فهناك بعض الوزارات يحيط فيها بالسيد الوزير مجموعة تتقاضي أجورا فلكية بينما من دونهم يتقاضون رواتبهم العادية وعلاواتهم مما يصيبهم بغصة وإحباط وأحقاد وتراخ وتوقف عن ممارسة العمل واحيانا الفساد. إننا هنا نرصد بعض ظواهر هذا الانقسام أو التفكيك والتفتيت في قوي المجتمع والتي أصابت كثيرا من قطاعاته وأصبحت سمعة مجتمعية لها مخاطرها علي وحدة المجتمع. فإذا كان المال هو عصب الحياة فإن البنوك هي الشريان الذي يمد الاقتصاد القوي بقوته وقواته وبقدر مساهمة البنوك وقيامها بدورها في ضخ الدماء يتقدم الاقتصاد ولكن في أي قطاع هذا هو المهم. وبنوكنا الوطنية مسئولة عن التنمية شاءت أم أبت, ونحن أمامنا تجربة طلعت حرب الذي قاد حملة إنشاء بنك مصر وجاب القري والنجوع عشرة أعوام قبل أن يبدأ هذا البنك المصري نشاطه في ظل سيطرة أجنبية كاملة علي كل مقدرات الاقتصاد واحتلال أجنبي, ومارس دورا خطيرا في بناء الاقتصاد ومحاولة بسط يد المصريين علي كثير من الأنشطة من البنوك الي النقل بمختلف أنواعه الي صناعة الغزل والنسيج والسينما, بينما البنوك الآن تعيش تحت معيار واحد يمثل نجاحها وهو معيار الربح فالبنوك تتسابق في تحقيق الأرباح حتي لو جاء هذا بالتأكيد علي مساهمتها في تنمية الاقتصاد الوطني, و كيف نفسر أن اجراءات قرض السيارة وحجمه اسهل وأكبر من قرض لمشروع صغير وكيف ننسي تدني الائتمان الذي يساهم به البنوك في الصناعة والزراعة؟ لقد حاولنا اصلاح البنوك وجاءوا بقرض ثمين من البنك الدولي لهذا الغرض تلاه مؤخرا قرض آخر بقيمة500 مليون دولار لتطوير البنوك ولكن يبدو أن التطوير كان في الإدارة العليا وما تتقاضاه من مرتبات و بدلات وهي التي جاءت من بنوك أجنبية ولم ينعكس علي تطوير الخدمات الي اصلاح حقيقي في قدرات ومهارات ومرتبات العاملين. نحن إذن في البنوك أمام ازدواجية وثنائية ويكاد الشئ نفسه يتم في بعض الوزارات, حيث يحيط بعض الوزراء أنفسهم بفريق عمل جاءوا به من خارج الوزارة يحصلون علي مرتبات فلكية لا تعرف من أين يتم تمويلها هل من ميزانية الدولة أم من ماذا ومعها سلطات هائلة ويتعاملون مع الناس من ابراج عالية, بينما أبناء الوزارة أنفسهم يعانون ضعف المرتبات ولم تنزل اليهم تلك الثمار تماما مثلما تجمدت ثمار التنمية عند مجموعة معينة, ولم تنزل ثمار معدل النمو الي المواطن ونري بعض المصالح الإيرادية تحتج علي ضعف المرتبات وتعسكر اياما وليالي وشهورا أمام مجلس الشعب دون أن يلتفت اليها أحد. والحديث عن الازدواجية يجرنا الي قطاع الاسكان فالخديو عندما بني القاهرة جاء بأعظم مهندس فرنسي وأصبحت القاهرة شبيهة بباريس ونلاحظ هنا اجتماعيا أن البناء جاء متوافقا مع المجتمع وتركيبته وكيانه ومستقبله فمثلا نموذج الحي الارستقراطي الزمالك أمامه علي الضفة الأخري للنيل أحياء بولاق والفرنساوي وما يجاورهما وهي أحياء شعبية, ولكن لم ينس المخطط المعماري أن تكون شوارعها متقاطعة بالطول والعرض وأن تكون مبانيها جميلة ومزخرفة. أيضا حي جاردن سيتي الارستقراطي يقطع شارع قصر العيني الي أحياء السيدة زينب والمنيرة ولم يقم المخطط العمراني الخواجة بعزل الزمالك وجاردن سيتي بأسوار علي نحو ما يتم الآن في الكومباوندات وهو ما أشارت اليه النشرة التي تصدرها إحدي الشركات المصرية المتخصصة في تسويق المنتجعات والفيلات حين نشرت تقريرا للأمم المتحدة عنوانه: مصر انقسمت الي عشوائيين وكومباونديين وذلك نقلا عن دراسة أعدها د. محمد محيي الدين استاذ علم الاجتماع الخبير الاستشاري في مركز القاهرة الاقليمي وبرنامج الأممالمتحدة الانمائي بالقاهرة قالت فيه: انتشرت في مصر في الآونة الأخيرة ظاهرة المدن السكنية المغلقة أو ما يطلق عليه كومباوند وهي تلك المدن التي تقام علي مساحات شاسعة من الأراضي وتحاط بأسوار عالية وتتوافر بها جميع الكماليات ووسائل الترفيه ويسكنها أصحاب الياقات البيضاء والأثرياء ممن قرروا الانسحاب من زحام المناطق العادية والحياة بمعزل عن باقي أفراد المجتمع. اعتبر خبراء العقارات هذا الاتجاه المستحدث صورة من صور ثورة الصفوة المصرية شأنها في ذلك شأن الانسحاب من نظام التعليم المصري والصحة وكافة صور التفاعل مع المجتمع بصورة عامة, الأمر الذي من شأنه زيادة الهوة ما بين شريحة محدودة تعيش خلف الأسوار يملك كل شئ والقاعدة العريضة من المجتمع الذي يعيش في عشوائيات لا يملك وهي الظاهرة التي تشكل خطرا حادقا ومجموعة من المخاطر الاجتماعية الهائلة. وفسر محيي الدين انسحاب الجماعات الثرية من النظم العامة واختيارهم العيش بمعزل عن باقي أفراد المجتمع إثر حدوث تحالف ما بين رجال الاعمال والدولة وتحلل رأسمالية الدولة وتحولها لبيروقراطية فاسدة بحيث أصبح هذا الرافد البيروقراطي الفاسد جزءا أساسيا من الطبقة الرأسمالية بمصر مع التحاق أو إلحاق أعداد منهم بالسلطة التشريعية, وترجمة ذلك في منح رجال الاعمال أراضي البناء المملوكة للدولة بأسعار منخفضة للغاية وأحيانا بالمجان لتمكينهم من تحقيق أرباح طائلة وحصولهم علي عقود تنفيذ عمليات ضخمة للجهاز الحكومي والقطاع العام والهيئات الاقتصادية بصورة ارتبطت باستغلال النفوذ السياسي. تلك هي الدراسة التي أشارت اليها مجلة مجموعة تسويق المنتجعات, وبينما تحولت6 أكتوبر الي محافظة بما فيها من منتجعات ومساكن اتسعت رقعتها بموافقة من سلطات الدولة باعتبارها منطقة عمرانية جديدة تستحق أن تكون محافظة مستقلة فانما يلاصقها أراض بالفدادين حصل عليها بعض الهواة تحت عنوان استصلاح الأراضي ثم قاموا بتحويل غرضها دون موافقة الدولة الي منتجعات تباع بالملايين وهذا أمر يكرس الازدواجية والانعزالية عن المجتمع فلا هي استصلحت أراض وأنتجت منتجات ولا هي خضعت لتخطيط عمراني يعطي كل ذي حق حقه. تلك هي مجموعة من الملاحظات أو الخواطر عن المخاطر والمحاذير أو خليط منها جميعا أن المستقبل ملك للمجتمع كله, وعلينا حماية هذا المستقبل لا أن تكون هناك فئات ومؤسسات أصلية ومؤسسات وفئات موازية ولا أن يتحول المجتمع الي التفتيت والازدواجية والثنائية, وأن تكون مصر بلدين مصر ومصر الموازية وليست بلدا واحدا. إن التفتيت إضعاف بينما قوة المجتمع في وحدته. المزيد من مقالات عصام رفعت