ثمة مدرستان تتجادلان حول علاقة الديمقراطية وحقوق الإنسان بالتقدم والنمو الاقتصادى. تعتبر المدرسة الأولى أن الديمقراطية وحكم القانون والحكم الرشيد والشفافية تخلق بيئة من الاستقرار والحوافز للتقدم والنمو الاقتصادى، أما المدرسة الثانية فهى تعتبر أن النمو الاقتصادى الثابت وغير المتقطع يحتاج إلى يد الدولة القوية وغياب الاختلافات والمشاحنات السياسية. ومؤخرا جدد الأستاذ Dani Rodtik، أستاذ الاقتصاد السياسى بجامعة هارفارد، هذا الجدل وذلك فى دراسته التى جعل عنوانها «أسطورة النمو السلطوى» «The myth of authoritarian Growth» ويبدو من عنوان الدراسة أن صاحبها ينتمى إلى المدرسة الأولى، وهو يبدأ من الحالة الروسية الراهنة، وحيث يمارس رئيس الوزراء الروسى بوتين قبضته ضد المعارضين، اعتقادا منه أن هذا هو الثمن الذى يجب دفعه من أجل ممارسة سلطة حكومية غير مكبوحة فى الداخل، وهو يفعل ذلك فى وقت أصبحت فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان من المعايير العالمية وأن النكوص عنها لن يعيد الاقتصاد الروسى على المدى الطويل أو فى دعم مكانة وسمعة روسيا العالمية. ولعل صاحب الدراسة قد شجعه على رؤيته لتأثير الأسلوب السلطوى على الاقتصاد الروسى وعلى ما يحتاجه من استثمارات خارجية، النداء الذى وجهه أحد كبار رجال الأعمال الأمريكيين، إلى المستثمرين الأمريكيين يحذرهم فيه من عدم ضخ استثماراتهم فى روسيا حيث سيؤدى هذا إلى ضياع هذه الاستثمارات. ويدعم الأستاذ Rodik وجهة نظره بالتساؤل عن كيف يمكن شرح أو تفسير حقيقة أن كل البلدان الغنية تقريبا هى دولة ديمقراطية؟ وأنه مقابل كل دولة سلطوية استطاعت أن تحقق نموا سريعا، هناك العديد من هذه الدول قد ترنحت، وأنه مقابل «لى كوان يو» فى سنغافورة هناك العديد من أمثال مويوتو سيسكو فى الكونغو، وهكذا فإن الديمقراطيات لا تتفوق فى أدائها على الديكتاتوريات عندما يأتى الأمر إلى النمو الاقتصادى الطويل الأجل فقط وإنما كذلك تتفوق عليهم فى العديد من الأوجه المهمة، فهى تقدم استقراراً اقتصاديا أعظم بكثير، وهى أفضل فى تكييف الصدمات الاقتصادية الخارجية، وهم يولدون استثمارات أكثر فى رأس المال البشرى والصحة والتعليم كما أنهم ينتجون مجتمعات أكثر عدلا. وعلى النقيض فإن النظم السلطوية تنتج اقتصاديات هشة مثل نظمهم السياسية، وتستند قوتهم الاقتصادية عندما تتحقق- على قوة قادتهم أو على ظروف مواتية ولكنها مؤقتة، وهم لا يستطيعون التطلع إلى تجديد اقتصادى مستمر أو إلى قيادة اقتصادية عالمية. غير أن هذا التحليل لابد أنه يدرك أن النموذج الذى تقدمه الصين بالنمو الاقتصادى غير المسبوق، الذى حققته خلال الثلاثين عاما الماضية فى الوقت الذى مازال فيه الحزب الشيوعى الصينى يحكم قبضته ويوجه عملية النمو الاقتصادى، وبشكل أوصل الصين إلى مرتبة القوة الاقتصادية الثانية فى العالم، نموذج الصين هذا يتحدى التحليل الذى تقدمه المدرسة التى يمثلها ويدعو لها الأستاذ Rodik، ولإدراكه لذلك فهو يتصدى لتنفيذها، ويعترف بالإنجاز الاقتصادى للصين إلا أنه يعتبر أن الصين رغم هذا مازالت دولة فقيرة ويعتمد تقدمها الاقتصادى بقدر ليس بالقليل على ما إذا كانت سوقاً تتمكن من فتح اقتصادها، وأنه بدون هذا التحول فإن الافتقار إلى هذه الآليات المؤسسية لإتاحة الأصوات المعارضة، وتنظيمها سوف ينتج فيما بعد صراعات سوف تعلو على قدرة النظام على قهرها، وهكذا فإن كلاً من الاستقرار السياسى والنمو الاقتصادى سوف يعانيان. ولكن ماذا عن القوى الأعظم الاقتصادية القادمة مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، والتى أنجزت بالفعل تحولها الديمقراطى، وليس من المحتمل أن تنكص عنه، فحقا أن أيا من هذه البلدان ليس بلا مشاكل: فالبرازيل مازال عليها أن تسترد ديناميكيتها الاقتصادية وأن تجد طريقا إلى النمو السريع، كما أن الديمقراطية الهندية قد يتملكها الجنون فى مقاومتها للتغير الاقتصادى، كما أن جنوب أفريقيا تعانى من درجة عالية من البطالة، رغم هذا كله فإن هذه التحديات لا تمثل شيئا مقارنة بالمهام الخطيرة للتحول المؤسسى، التى تنتظر البلدان التى تحكم حكماً سلطوياً. وأوضح أن هذا الجدل ليس غريبا عن تطوير مصر السياسى والاقتصادى، فقد جربت مصر فتح اقتصادها فى ظل يد الدولة القوية مع التضحية بالديمقراطية، ورغم درجة النمو الاقتصادى الذى حققته إلا أنها تبددت مع هزيمة 67، والتى كانت فى التحليل الأخير بسبب غياب الديمقراطية، ومنذ منتصف السبعينيات جربت مصر فتح اقتصادها واقترن هذا بانفتاح فى نظامها السياسى، ولكن كان ولايزال انفتاحا خجولا ومترددا، وربما هذا يمثل معضلة السياسة والاقتصاد فى مصر اليوم.