لا يزيد طول تاريخ تعريب مصر عن نحو ربع تاريخها المكتوب كله, ولا يعادل سوي نحو ثلث تاريخها الفرعوني تقريبا, ومع ذلك فان المصريين.. أمة مصرية.. لكنها عربية أيضا! والحقيقة أن المصريين قد خلقوا أول أمة في التاريخ تجمعها وحدة الأصل واللغة والمصلحة منذ عصر الأسرات الفرعونية, وهو ما يعزز الفخر بالأصالة والعراقة والريادة والجدارة. لكن الحقيقة أيضا أن الأمة المصرية قد صارت عربية مع عصر الفتوحات العربية, وإن اقتصرت عروبتها علي اللغة دون العرق, وهو ما يعزز مصالحها الوطنية من حيث الإمكانية علي الأقل. وقبل الخوض في شرح ما أوجزت, تذكرت ما كتبه بعض القراء تعليقا علي مقالات سابقة, ومنهم قاريء خاطب ما أسماه قبائل العرب التي حضرت لمصر.. ويدعوها الي أن تترك البلد لأهلها الأصليين, لأننا لا نري فيهم خيرا لمصرنا.. فمصر في غني عن كل الدخلاء! وعليه أرد, بما بينته في مقالي السابق عن تكوين الأمة المصرية, أن المؤثرات البشرية الوافدة الي مصر, منذ تشكلت الأمة المصرية في عصر الأسرات الفرعونية وحتي الآن, لم تتعد نحو10% من مجموع سكان مصر في أي فترة من تاريخها, وقد صار الوافدون مصريين بمجرد أن استقروا بمصر وذابوا فيها وأقاموا عليها بصفة دائمة. ولنتذكر هنا ما أورده سليمان حزين في كتابه حضارة مصر مستندا الي بحوث رصينة من أن المسلمين ليسوا دخلاء علي مصر في أي معني, ولا هم أقل مصرية في الأصل عن المسيحيين, ولا يقل المسلمون قربا من المصريين القدماء عن المسيحيين. وإذا كان بعض المسلمين قد داخلتهم دماء عربية أو غير عربية, فان المسيحيين قد داخلهم بعض مؤثرات خارجية من خلال الزواج المختلط مع بعض العناصر والجاليات المسيحية الشامية والأوروبية. وأكرر أن معظم المسلمين المصريين إنما هم معظم المسيحيين المصريين الذين أسلموا بالأمس, وأن مسيحيي اليوم هم بقية مسيحيي الأمس الذين استمروا علي عقيدتهم السابقة. والحقيقة أن المصريين, ومنذ فجر التاريخ, قد إندمجوا في أمة واحدة علي أرض الوادي والدلتا بمصر, يربطهم النيل بحياة اقتصادية مشتركة, ويكونون نسيجا متماسكا من الوحدة الوطنية, وتوحدهم روابط اللغة والثقافة والتاريخ والجنس والدين, وتجمعهم المصالح والغايات العليا المشتركة ومشاعر الولاء والإنتماء للوطن. وقد تمكن المصريون القدماء بقيادة ملوكهم منذ عهد مينا من إقامة وحفظ حدود دولتهم القومية المركزية الموحدة من رفح الي حلفا, وذلك قبل أكثر من خمسة آلاف عام من ظهور الحركات والدول القومية في أوروبا مع الثورة الصناعية الرأسمالية وتكون السوق القومية. وفي الإجابة عن سؤال هوية مصر.. فرعونية أم عربية؟ يقول جمال حمدان, الباحث المرموق في شخصية مصر والمنظر المؤمن بعروبة مصر: إن كل أجزاء العالم العربي خارج الجزيرة العربية دمغت بصورة أو بأخري بأنها ليست عربية ولكنها مستعربة, علي أساس أن السكان قبل التعريب لم يكونوا عربا' جنسيا'. ويرد بأن العروبة مضمون ثقافي لا جنسي, أولا. وإذا كان لابد من مقياس مدرج للعروبة, فليس جنسيا هو. ليس كمية الدم العربي التي أضيفت, ولكنه كمية اللسان العربي التي استعيرت. بمعني آخر, مقياس العروبة, مثلما هو أساسها, اللغة لا الجنس! ويستطرد حمدان قائلا: إن كل الغطاء البشري, الذي يغطي ما يعتبر الآن العالم العربي هو أساسا فرشة واحدة ومن جذر واحد, توزع مع عصر الجفاف وتطورت اللغات والألسن ما بين سامي وحامي, لكن الثابت المحقق أن اللغة المصرية القديمة, الحامية تصنيفا, تشترك في أكثر من عشرة آلاف كلمة مع اللغة العربية! ويفاجئنا بيير روسي الباحث الفرنسي في كتابه التاريخ الحقيقي للعرب إذ يتحدي مسلمة أن تعريف العرب عرقيا يقتصر علي بدو شبه الجزيرة العربية دون غيرهم. ويقول إن التقارب الثقافي التاريخي ما يعتبر الآن العالم العربي هو ما يفسر أن اللغة العربية قد لقيت حظا لم تعرفه أية لغة أخري في انتشارها,ويلفت النظر إلي توقف التعريب عند حدود العالم العربي! ورافضا ما وصفه الزيف والضلال باسم السامية المزعومة لفصل عرب الجزيرة عن بقية العرب, يوضح أن اللغة العربية المعاصرة قد تطورت عن اللغة الآرامية,التي تطورت عن اللغات المصرية والكنعانية والآشورية البابلية التي توجد في أصولها العناصر الأساسية للغة العربية!ونعرف من التاريخ أن اليونان ثم الرومان قد أقاموا بأعداد لا يستهان بها في مصر ولنحو3 أو4 قرون, ومع ذلك لم تحدث لمصر أغرقة ولا رومنة لغويا أو دمويا. ولكن حين التقي العرب بالمصريين, وتصاهروا واختلطت دماؤهم, لم يكن ذلك في الحقيقة إلا لقاء أبناء عمومة أو أخوة في المهجر. ومن الثابت أن عرب الجزيرة لم يكفوا عن الخروج منها والتدفق علي مصر أو التسلل إليها طوال التاريخ المكتوب وقبله. فقد عرفت مصر قبل الإسلام العرب القحطانيين الزراع الذين كانوا يعبرون البحر ويستقرون في الوادي ويختلطون بسكانه, والعرب العدنانيين الذين كانوا يجوبون الصحراء الشرقية كبدو رحل وحاربهم الفراعنة طويلا, كما يورد حسين مؤنس في مصر ورسالتها. والواقع أن هجرة ما في تاريخ مصر- كما يرصد جمال حمدان- لم تتعرض للاختلاف علي تقييمها جنسيا كما تعرضت الموجة العربية إما إلي المبالغة المفرطة في تقدير أثرها ووزنها, وإما إلي المغالاة الشديدة في التقليل من خطرها ونتائجها. والحقيقة أن كلا الاتجاهين متطرف تعوزه الدقة. ولا شك أن موجة الفتح العربي في القرن ال7 ثم موجة بني هلال وسليم في القرن ال11 كانت أول وآخر وأخطر هجرة استيطان وأهم إضافة إلي تكوين الدم المصري منذ عصر ما قبل الأسرات. وقد سهل الامتزاج أن الساميين والحاميين, الذي ينتمي المصريون إلي الأخيرين منهم, تعديلان من عرق جنسي مشترك, من جهة, وقرب اللغة العربية السامية من اللغة المصرية القديمة الحامية السامية, من جهة أخري. وقد غيرت الهجرة العربية لغة مصر القديمة وعربتها كليا ونهائيا, غير أن العرب وإن غيروا لغة مصر كانوا أقلية عددية جدا بالقياس إلي المصريين, فتمصروا جنسيا. ويقدر فليندرز بيتري في كتابه' الهجرات' حجم الموجة العربية في مصر في مجملها طوال تاريخها من ذكور وإناث بنحو150 ألفا, ولعل الأقرب إلي الصواب تقدير مري بنصف المليون, أي مالا يتعدي في التقدير الأعلي نحو6 7% من المصريين في عصر التعريب! ولنا أن نقول- كما يخلص جمال حمدان- إنه إذا كان العرب قد عربوا مصر ثقافيا, فإن مصر قد مصرتهم جنسيا, وأن تعريب المصريين تحول في النهاية إلي تمصير العرب! وللحديث بقية.