التحقت بمدرسة عبدالله نديم في العام الرابع والأربعين بعد التسعمائة والألف. وكانت مدرسة بلدتنا هذه قد أنشئت في العام الثالث والعشرين أي عقب ثورة التاسع عشر بأربع سنوات , ولم تكن تحمل اسم عبدالله نديم آنذاك. أما متي حملته ولماذا؟ فذلك ما لم أشأ بحثه ترحيبا باسم عبدالله النديم الذي لم يكن خطيبا للثورة العرابية فحسب, بل كان إلي ذلك أحد أهم بناة الروح الوطنية المصرية, كمفكر ثوري شخص في عدة شخصيات إيجابية فعالة: الصحفي والأدباتي والمناضل السياسي, كما أنه رائد فن الزجل بل لعله مؤسس مدرسة الزجل المقاوم المهيج للجماهير المعبر عن الضمير الوطني وعن قاع الحياة في المجتمع المصري الذي لا يعرفه حكامه ولم يعرفوه علي طول الزمان. وهي المدرسة الزجلية التي تخرج فيها أكبر عملاقين عظيمين كان لهما أكبر الأثر في المجتمع المصري المعاصر هما بيرم التونسي وبديع خيري, ناهيك عن أبي السعود الابياري وأبي بثينة ومحمود رمزي نظيم وحسين شفيق المصري وغيرهم. ناظر مدرستنا آنذاك رجل فاضل من حملة شهادة عالمية الأزهر الشريف, ظل علي ولائه لزيه الرسمي: الجبة والقفطان والعمامة فكان هو المعمم الوحيد بين لفيف من الأفندية المطربشين, كنا نصطبح بوجهه كل يوم في طابور الصباح للتفتيش علي نظافة التلاميذ من فرط ندرتها بين عيال من أبناء الفلاحين والأجرية بل والمعدمين لا يملكون سوي الجلباب الذي يستر أجسادهم وبعضهم لا يخلعه عند النوم, عذرهم ليس الفقر وحده, إنما العذر الأكبر أن المدارس لم تكن في حسبان أهاليهم من الأساس بل هم غير مرحبين بها نظرا لاحتياجهم إلي العيال يساعدونهم في شغل الغيط أو باليومية في أرض الوسية, غير ان دعوة طه حسين إلي التعليم الإلزامي باعتباره من حق كل مواطن كالماء والهواء قد تم تنفيذها وأصبح خفراء البلدة يجلبون العيال بقوة القانون إلي المدرسة برضاء أو عدم رضاء أهاليهم. عدد قليل من أبناء المياسير الذين ألحقوا عيالهم بالمدرسة الإلزامية تمهيدا للصرف عليهم في مدارس البندر الابتدائية كانوا يملكون أكثر من جلباب نظيف علي الدوام, وينتعلون صنادل ماركة باتا كانت شهيرة وأنيقة وثمن الواحد منها تسعة وتسعون قرشا وذاك مبلغ يشتري ثلاث كيلات من القمح تقيم أود عائلة بأكملها لمدة عشرين يوما علي الأقل, ويشتغل به أجير رشيد لمدة عشرة أيام في عزيق أو حرث أو تطهير مصارف أو شتل أرز أو جمع قطن في أرض وسية محمد علي باشا الصغير أو أراضي الأعيان. أما بقية العيال فحفاة يتراكم علي وجوههم صدأ البؤس وتنضح جلابيبهم بعرق الشقاء الكالح المزمن. في عهد الناظر الشيخ حسن الزيات أبلغونا ذات يوم في طابور الصباح عن مشروع تبنته وزارة المعارف العمومية اسمه مشروع مقاومة الحفاء, وطلبوا من كل تلميذ قرشا صاغا عشرة مليمات كرسم اشتراك في هذا المشروع, من سيدفعه سيحصل علي حذاء. رحب الأهالي بفكرة المشروع, لكن عدم ثقتهم الأزلية في الحكومة جعلتهم يزمزقون. إنهم دائما يزمزقون متي كان في الأمر فلوس مطلوب منهم دفعها. ومع ذلك نشط في البلدة رأي عام يؤيد المشروع ويدعو إليه, دفع الذين في أيديهم فلوس طوال العام, واقترض الذين يفلحون علي ذمة أقرب محصول قادم, وباعت بعض النساء تحويشاتهن من بيض الدجاج, وباعت أمي بطة كانت مرشحة للذبح في موسم عاشوراء. وبرغم حزني الشخصي علي البطة فإنني صرت مزهوا بأني دفعت القرش قبل كثيرين غيري لم يقتنع أهاليهم بعد بأن الحكومة يمكن أن يأتي من ورائها رجاء! سافرت قروشنا إلي حيث لا نعلم. وبعد ما يقرب من شهر, لاحظنا ذات ضحي حركة غير عادية, فثمة أفندية محترمون دخلوا المدرسة وتوجهوا إلي حجرة الناظر, وبعد قليل خرج الناظر يتقدمهم إلي حجرة المعلمين الواسعة. ثم بدأ محمود المهدي الفراش الأوحد للمدرسة يتحرك في اتجاه الفصول, يخرج من فصل إلي فصل يمكث فيه برهة, إلي أن رأيناه في مدخل باب فصلنا ينقر بظاهر أصابعه علي الباب. وكان المعلم ساعتئذ هو قمر أفندي الشرنوبي الذي كان يحكي لنا قصة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وكيف فعل به الكفار ما فعلوا, فتوقف عن الحكي وأذن للمهدي بالدخول. فاقترب المهدي منه وهمس في أذنه بكلام لم نسمعه, لكننا تفائلنا باحمرار وجه قمر أفندي تحت ضغط ابتسامة عريضة فيما يهز رأسه بالموافقة قائلا: وهو كذلك. عقب انصراف محمود المهدي مباشرة اتسعت الابتسامة المخملية علي شفتي قمر افندي كاشفة عن اسنانه الدقيقة الناصعة البياض كأنها أسنان للزينة فحسب. وبصوته الرخيم الودود قال: مفيش مرواح النهاردة بعد الجرس؟. وبعد أن استمتع قليلا بمنظر التوجس الذي لاشك تلبكت منه ملامح وجوهنا استمتع مرة أخري بإلقاء المفاجأة التي يعرف أنها ستفرحنا, حيث قال وهو يشير بذراعه اليسري نحو الحوش: الوزارة باعتاهم ياخدوا مقاسات رجليكم واحد واحد عشان يفصلوا الجزم علي مقاسكم بالمظبوط! عندئذ نسينا أننا في فصل دراسي, نسينا حقدنا المشبوب علي الكفار الذين آذوا النبي, صرنا نلكز بعضنا بعضا بخشونة ونطلق صيحات الفرح وندبدب علي الأرض بأرجلنا ونخبط فوق الأدراج. صرخ فينا قمر افندي, ذلك الرجل الرقيق الأنيق, الأشد أناقة من جميع المعلمين في حلله الصوفية الإنجليزية الثمينة وقمصانه الحريرية وأربطة عنقه ونظارته الطبية ذات الإطار الذهبي المستدير العدستين, صار فجأة كلسان لهب طالع من حريق, هوي بالخيزرانه فوق سطح مكتبه عدة مرات متتالية كجرس الإنذار يعطينا عينة مما قد ينالنا فوق الأقفية من هذه الخيزرانة, إنكتمنا علي الفور, صرنا كالخشب المسندة وقد قفزت أجنابنا لنلقي لسعة غادرت من هذه الخيزرانة التي لا تؤتمن علي الإطلاق. ظل قمر أفندي واقفا في صمت غاضبا لبرهة طويلة, ثم, وبلهجة تشي بنبرة المصالحة قال: أنا سبق وقلت لكم إيه؟! فبقينا صامتين شاخصين نحاول التذكر فيما سبق أن قاله لنا وقد التبس علينا الأمر, هل يقصد ما سبق أن قاله في هذه الحصة؟ أم في حصص سابقة؟ إيه القول المأثور اللي دايما أقوله لكم؟ العبد يقرع بالعصا.. والحر تكفيه المقالة! العبد إيه؟.. يقرع.. يعني ينضرب!.. يعني لازم تضربه بالخرزانة علي جنابه عشان ينفذ الأوامر! عشان يشتغل!.. تعرفوا ليه؟ لأنه عبد! أسياده عودوه علي الضرب بقسوة لحد ما أدمن الضرب وأصبح الضرب هو البنزين اللي بيحركه زيه زي الحمار محتاج عصاية تلسوعه!.. لكن بقي الحر.. الراجل الحر يعني المتعلم المتربي في بيتهم عنده دماغ بيشغله! تقول له اسكت يسكت اعمل كذا يعمل أو يعترض إذا كان عنده رد مقنع! حافضل طول عمري أقول لكم الكلام ده! لأ طبعا مقداميش غير الخرزانة دي أتفاهم بيها مع أي واحد عاوز يبقي عبد!.. نرجع للي كنا فيه؟ وصلنا لحد فين في قصة الرسول؟ ولكن ماكان قد تبقي من قصة الرسول لم تثبت منه كلمة واحدة في رءوسنا التي انجذبت بكاملها إلي ما بدأ يدور في الحوش: بعض الفصول اصطفت في طابور, واقعي بين أقدامهم أفندية يقيسون أحجام الأرجل بالمازورة ويدونون. إلي أن جاء دور فصلنا فتقدمنا كأحرار في صمت واحترام, والغبطة تكاد تنفضنا من فرط الفرحة كأننا قد تسلمنا الأحذية بالفعل. ولقد بقي هذا الحدث حيا في ذاكرة البلدة لأشهر طويلة, ولكن الأحذية لم تأت علي الإطلاق. وفي نهاية العام الدراسي التالي ألحف أهالينا في السؤال, فقيل لهم إن المقاسات لم تكن مضبوطة وأنهم صرفوا النظر عن المشروع فيما يبدو. قالوا: والقروش التي دفعناها كيف نستردها؟ فقيل لهم: ومنذ متي كانت الحكومة ترد ما أخذت من الناس؟! إنها مثل المقبرة لا ترد ميتا أبدا!